الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 161 ] " وبشرناه بإسحاق نبيئا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين " هذه بشارة أخرى لإبراهيم ومكرمة له ، وهي غير البشارة بالغلام الحليم ، فإسحاق غير الغلام الحليم . وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب .

وتسمية المبشر به إسحاق تحتمل أن الله عين له اسما يسميه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من التكوين " سارة امرأتك تلد ابنا وتدعو اسمه إسحاق .

وتحتمل أن المراد : بشرناه بولد الذي سمي إسحاق ، وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سمي إسماعيل .

ومعنى البشارة به البشارة بولادته له ؛ لأن البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني .

وانتصب " نبيئا " على الحال من إسحاق ، فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالا مقدرا لأن اتصاف إسحاق بالنبوءة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجودا ، فالمعنى : وبشرناه بولادة ولد اسمه إسحاق مقدرا ، حاله أنه نبيء ، وعدم وجود صاحب الحال في وقت الوصف بالحال لا ينافي اتصاله بالحال على تقدير وجوده ؛ لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال ، بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ، ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك ، وطول زمان الاستقبال لا يتحدد ، ومنه ما تقدم في قوله تعالى " ويأتينا فردا " في سورة مريم .

واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدر حصولها غير حاصلة الآن والمقدر هو الناطق بها ، وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان ، فلا [ ص: 162 ] تحتفل بما أطال به في الكشاف ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات .

وإن كان وضعا معترضا في أثناء القصة كان تنويها بإسحاق وكان حالا حاصلة .

وقوله " من الصالحين " حال ثانية ، وذكرها للتنويه بشأن الصلاح ، فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبيء لا بد أن يكون صالحا ، والنبوءة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة .

وبارك : جعله ذا بركة ، والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه ، وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا في سورة آل عمران ، وقوله " وبركات عليك " في سورة هود .

و ( على ) للاستعلاء المجازي ، أي تمكن البركة من الإحاطة بهما .

ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال ومن ذريتهما محسن ، أي عامل بالعمل الحسن ، " وظالم لنفسه " أي مشرك غير مستقيم ، للإشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون ، فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ، ومن ذرية إسحاق مثلهم ، ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب ، ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد - صلى الله عليهما - ، ونظيره قوله تعالى قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين في سورة البقرة .

وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر ، وعلى أن فساد الأعقاب لا يعد غضاضة على الآباء ، وأن مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات ، وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتساع بفضائل الخلال ، فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم ، وأنها مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإسلام وأنهم الأولى بالمسجد الحرام . قال أبو طالب في خطبة خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا [ ص: 163 ] رجال حرمه وسدنة بيته " ، فكان ذلك قبل الإسلام ، وقال الله تعالى لهم بعد الإسلام أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ، وقال تعالى وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون وقال " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيء والذين آمنوا .

وقد ضرب الله هذه القصة مثلا لحال النبيء صلى الله عليه وسلم في ثباته على إبطال الشرك ، وفيما لقي من المشركين ، وإيماء إلى أنه يهاجر من أرض الشرك وأن الله يهديه في هجرته ويهب له أمة عظيمة كما وهب إبراهيم أتباعا ، فقال : " إن إبراهيم كان أمة " .

وفي قوله تعالى ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين مثل لحال النبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه من أهل مكة ولحال المشركين من أهل مكة .

التالي السابق


الخدمات العلمية