الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر غزوة مؤتة

كان ينبغي أن نقدم هذه الغزوة على ما تقدم ، وإنما أخرناها لتتصل الغزوات العظيمة ، فيتلو بعضها بعضا .

وكانت في جمادى الأولى من سنة ثمان ، واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم زيد بن حارثة ، وقال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب ، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة . فقال جعفر : ما كنت أذهب أن تستعمل علي زيدا ، فقال : امض ؛ فإنك لا تدري أي ذلك خير . فبكى الناس وقالوا : هلا متعتنا بهم يا رسول الله ؟ فأمسك ، وكان إذا قال : فإن أصيب فلان فالأمير فلان - أصيب كل من ذكره .

فتجهز الناس ، وهم ثلاثة آلاف ، وودعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس . فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى عبد الله ، فقال له الناس : ما يبكيك ؟ فقال : ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ آية ، وهي : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ فقال المسلمون : صحبكم الله ، وردكم إلينا سالمين .

فقال عبد الله :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا     أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا [ ص: 112 ]     حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
أرشدك الله من غاز وقد رشدا

فلما ودعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاد قال عبد الله : خلف السلام على امرئ ودعته في النخل خير مشيع وخليل

ثم ساروا حتى نزلوا معان ، فبلغهم أن هرقل سار إليهم في مائة ألف من الروم ، ومائة ألف من المستعربة ، من لخم وجذام وبلقين وبلي ، عليهم رجل من بلي يقال له : مالك بن رافلة ، ونزلوا مآب من أرض البلقاء ، فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم ، وقالوا : نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخبره الخبر وننتظر أمره ، فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال : يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين ، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين . فقال الناس : صدق والله ، وساروا ، وسمعه زيد بن أرقم - وكان يتيما في حجره ، وقد أردفه في مسيره ذلك على حقيبته - وهو يقول :


إذا أديتني وحملت رحلي     مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم     ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني     بأرض الشام مشتهي الثواء
وردك كل ذي نسب قريب     من الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل     ولا نخل أسافلها رواء



فلما سمعها زيد بكى ، فخفقه بالدرة وقال : ما عليك يا لكع ! يرزقني الله الشهادة ، وترجع بين شعبتي الرحل ؟ ثم ساروا ، فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها : مشارف ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة ، فالتقى الناس عندها ، وكان [ ص: 113 ] على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري ، وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط في رماح القوم ، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها وهو يقول :


يا حبذا الجنة واقترابها     طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ،     علي ، إذ لاقيتها ، ضرابها



فلما اشتد القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل ، وكان جعفر أول من عقر فرسه في الإسلام ، فوجدوا به بضعا وثمانين بين رمية وضربة وطعنة ، فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم ، فتردد بعض التردد ، ثم قال يخاطب نفسه :


أقسمت يا نفس لتنزلنه     طائعة أو لا لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه     ما لي أراك تكرهين الجنه
قد طال ما قد كنت مطمئنه     هل أنت إلا نطفة في شنه


وقال أيضا :


يا نفس إن لم تقتلي تموتي     هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت     إن تفعلي فعلهما هديت


ثم نزل عن فرسه ، وأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال له : شد بهذا صلبك ، فقد لقيت ما لقيت . فأخذه فانتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية العسكر ، فقال لنفسه : وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه وأخذ سيفه وتقدم ، فقاتل حتى قتل .

واشتد الأمر على المسلمين وكلب عليهم العدو ، وقد كان قطبة بن قتادة قتل قبل ذلك مالك بن رافلة قائد المستعربة . ثم إن الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فصعد المنبر وأمر فنودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فقال : باب خير ! - [ ص: 114 ] ثلاثا - أخبركم عن جيشكم هذا الغازي ، إنهم لقوا العدو ، فقتل زيد شهيدا - فاستغفر له - ثم أخذ اللواء جعفر ، فشد على القوم حتى قتل شهيدا - فاستغفر له - ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة ، وصمت حتى تغيرت وجوه الأنصار ، وظنوا أنه قد كان من عبد الله ما يكرهون ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فقاتل القوم حتى قتل شهيدا ، ثم قال : لقد رفعوا إلى الجنة على سرر من ذهب ، فرأيت في سرير ابن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه ، فقلت : عم هذا ؟ فقيل : مضيا ، وتردد بعض التردد ثم مضى .

ولما قتل ابن رواحة أخذ الراية ثابت بن أرقم الأنصاري وقال : يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم . فقالوا : رضينا بك . فقال : ما أنا بفاعل . فاصطلحوا على خالد بن الوليد ، فأخذ الراية ، ودافع القوم ، وانحازوا عنه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ، فعاد بالناس . فمن يومئذ سمي خالد سيف الله .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : مر بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان ، مختضب القوادم بالدم .

قالت أسماء : أتاني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فرغت من اشتغالي ، وغسلت أولاد جعفر ودهنتهم ، فأخذهم وشمهم ودمعت عيناه ، فقلت : يا رسول الله ، أبلغك عن جعفر شيء ؟ قال : نعم ، أصيب هذا اليوم . ثم عاد إلى أهله فأمرهم أن يصنعوا لآل جعفر طعاما ، فهو أول ما عمل في دين الإسلام . قالت أسماء بنت عميس : فقمت أصنع ، واجتمع إلي النساء . فلما رجع الجيش ودنا من المدينة لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، فأخذ عبد الله بن جعفر فحمله بين يديه ، فجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون : يا فرار ، يا فرار ! ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ليسوا بالفرار ، ولكنهم الكرار - إن شاء الله تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية