الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 220 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ومن مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب فهو شهيد لا يغسل ولا يصلى عليه ، لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا } وإن جرح في الحرب ومات بعد انقضاء الحرب غسل وصلي عليه ; لأنه مات بعد انقضاء الحرب ، ومن قتل في الحرب وهو جنب ففيه وجهان : قال أبو العباس بن سريج وأبو علي بن أبي هريرة : يغسل ، لما روي " { أن حنظلة بن الراهب قتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما شأن حنظلة ؟ فإني رأيت الملائكة تغسله ، فقالوا : جامع فسمع الهيعة فخرج إلى القتال } " فلو لم يجب غسله لما غسلته الملائكة . وقال أكثر أصحابنا : لا يغسل ; لأنه طهارة عن حدث فسقط حكمها بالشهادة كغسل الميت ، ومن قتل من أهل البغي في قتال أهل العدل غسل وصلي عليه ; لأنه مسلم قتل بحق فلم يسقط غسله والصلاة عليه ، كمن قتل في الزنا والقصاص ، ومن قتل من أهل العدل في حرب أهل البغي ففيه قولان : ( أحدهما ) : يغسل ويصلى عليه ; لأنه مسلم قتل في غير حرب الكفار ، فهو كمن قتله اللصوص .

                                      ( والثاني ) : أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ; لأنه قتل في حرب هو فيه على الحق وقاتله على الباطل ، فأشبه المقتول في معركة الكفار ، ومن قتله قطاع الطريق من أهل القافلة ففيه وجهان : ( أحدهما ) : أنه يغسل ويصلى عليه ( والثاني ) : لا يغسل ولا يصلى عليه لما ذكرناه في أهل العدل ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث جابر رواه البخاري رحمه الله ، وأما حديث حنظلة بن الراهب وأن الملائكة غسلته لما كان جنبا واستشهد ، فرواه البيهقي بإسناد جيد من رواية عبد الله بن الزبير متصلا ، ورواه مرسلا من رواية عباد بن عبد الله بن الزبير ورواية عبد الله بن الزبير ، لهذا يكون مرسل صحابي رضي الله عنه فإنه ولد قبل سنتين فقط ، وهذه القصة كانت بأحد ، ومرسل الصحابي حجة على الصحيح ، والله أعلم . وأما الشهيد فسمي بذلك لأوجه سبق بيانها في باب السواك . وقوله في حديث جابر رضي الله عنه " ولم يصل عليهم " هو بفتح اللام . قوله : " سمع هيعة " بفتح الهاء وإسكان الياء ، وهي الصوت الذي يفزع منه . قوله " طهارة عن حدث فسقط حكمها بالشهادة " احتراز من طهارة النجس ، فإنه يجب إزالتها على المذهب كما سنوضحه إن شاء الله تعالى . قوله " ; لأنه [ ص: 221 ] مسلم قتل بحق فلم يسقط غسله ، فيه احتراز ممن قتله الكفار فهو شهيد . قوله : " قتله اللصوص " هو بضم اللام ، جمع لص بكسرها كحمل وحمول .

                                      ( أما حكم الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) : الشهيد لا يجوز غسله ولا الصلاة عليه وقال المزني رحمه الله يصلى عليه . وحكى إمام الحرمين والبغوي وغيرهما وجها أنه تجوز الصلاة عليه ولا تجب ولا يغسل . وقال الرافعي رحمه الله : الغسل إن أدى إلى إزالة الدم حرام بلا خلاف ، وإلا فحرام على المذهب ، وقيل في تحريمه الخلاف الذي في الصلاة ، ، والمذهب ما سبق من الجزم بتحريم الصلاة والغسل جميعا ، ودليله حديث جابر مع ما سنذكره في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى . ( الثانية ) يثبت حكم الشهادة فيما ذكرناه للرجل والمرأة والعبد والصبي والصالح والفاسق .



                                      ( الثالثة ) : الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه هو من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال ، سواء قتله كافر ، أو أصابه سلاح مسلم خطأ أو عاد إليه سلاح نفسه أو سقط عن فرسه أو رمحته دابة فمات أو وطئته دواب المسلمين أو غيرهم أو أصابه سهم لا يعرف هل رمى به مسلم أم كافر ، أو وجد قتيلا عند انكشاف الحرب ولم يعلم سبب موته ، سواء كان عليه أثر دم أم لا ، وسواء مات في الحال أم بقي زمنا ثم مات بذلك السبب قبل انقضاء الحرب ، وسواء أكل وشرب ووصى أم لم يفعل شيئا من ذلك ، وهذا كله متفق عليه عندنا ، نص عليه الشافعي والأصحاب ، ولا خلاف فيه إلا وجها شاذا مردودا حكاه الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق أن من رجع إليه سلاحه أو وطئته دابة مسلم أو مشرك أو تردى في بئر حال القتال ونحوه ليس بشهيد ، بل يغسل ويصلى عليه والصواب الأول . أما إذا مات في معترك الكفار لا بسبب قتالهم ، بل فجأة أو بمرض فطريقان : المذهب أنه ليس بشهيد ، وبه قطع الماوردي والقاضي حسين والبغوي وآخرون والثاني فيه وجهان : ( أحدهما ) : شهيد وأصحهما ليس بشهيد ، حكاه إمام الحرمين وآخرون ، قال القاضي حسين والبغوي . رحمهم الله : [ ص: 222 ] وكذا لو قتله مسلم عمدا أو رمى إلى صيد فأصابه في حال القتال ومات بعد انقضائه ، فإن قطع بموته من تلك الجراحة وبقي فيه بعد انقضاء الحرب حياة مستقرة فقولان مشهوران

                                      ( أصحهما ) : ليس بشهيد ، سواء في جريان القولين أكل وشرب وصلى وتكلم أم لا ، وسواء طال الزمان أم لا ، هذا هو المشهور ، وقيل : إن مات عن قرب فقولان ، وإن طال الزمان فليس بشهيد قطعا ، أما إذا انقضت الحرب وليس فيه إلا حركة مذبوح فهو شهيد بلا خلاف ; لأنه في حكم الميت ، وإن انقضت وهو متوقع الحياة فليس بشهيد بلا خلاف .



                                      ( الرابعة ) إذا قتل أهل العدل إنسانا من أهل البغي في حال القتال غسل وصلي عليه بلا خلاف ، وإن قتل أهل البغي عادلا فقولان مشهوران ، أصحهما يغسل ويصلى عليه كعكسه ، قال الشيخ أبو حامد والمحاملي في كتابيه وابن الصباغ : هذا هو المنصوص عن الشافعي في القديم والجديد ( والثاني ) : نص عليه في قتال أهل البغي لا يغسل ولا يصلى عليه ; لأنه مقتول في حرب مبطلين فأشبه الكفار .



                                      ( الخامسة ) : من قتله قطاع الطريق فيه طريقان : حكاهما إمام الحرمين وآخرون وأحدهما : ليس بشهيد قطعا ، وبه قطع جماعة ( وأصحهما ) : وبه قطع المصنف والأكثرون فيه وجهان : ( أصحهما ) : باتفاقهم ليس بشهيد ( والثاني ) : شهيد أما من قتله اللصوص ففيه طريقان : أصحهما وبه قطع المصنف والماوردي وآخرون ليس بشهيد قطعا .

                                      ( والثاني ) : أنه كمن قتله قطاع الطريق فيكون فيه الطريقان .



                                      ولو دخل حربي دار الإسلام فقتل مسلما اغتيالا فوجهان ، حكاهما إمام الحرمين وغيره ( الصحيح ) : باتفاقهم ليس بشهيد .



                                      ولو أسر الكفار مسلما ثم قتلوه صبرا ففي كونه شهيدا في ترك الغسل والصلاة عليه وجهان : حكاهما صاحب الحاوي وغيره أصحهما ليس بشهيد .



                                      ( السادسة ) : المرجوم في الزنا والمقتول قصاصا والصائل وولد الزنا والغال من الغنيمة إذا لم يحضر القتال ونحوهم يغسلون ويصلى عليهم بلا خلاف عندنا ، وفي بعضهم خلاف للسلف سنذكره في فروع مذاهب العلماء [ ص: 223 ] إن شاء الله تعالى .



                                      ( السابعة ) : لو استشهد جنب فوجهان : ( أصحهما ) : باتفاق المصنفين يحرم غسله وبه قال جمهور أصحابنا المتقدمين ; لأنها طهارة حدث فلم يجز كغسل الموت ( والثاني ) : وبه قال ابن سريج وابن أبي هريرة : يجب غسله بسبب شهادة الجنابة ، والخلاف إنما هو في غسله عن الجنابة ، ولا خلاف أنه لا يغسل بنية غسل الموت ، قال القاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي والعبدري والرافعي وخلائق من الأصحاب : لا خلاف أنه لا يصلى عليه وإن غسلناه ( قلت : ) وقد سبق وجه شاذ أنه يصلى على كل شهيد ، فيجيء هنا ، ما إذا استشهدت منقطعة الحيض قبل اغتسالها فهي كالجنب ، وإن استشهدت في أثناء الحيض - فإن قلنا الجنب لا يغسل - فهي أولى ، وإلا فوجهان حكاهما صاحب البحر ، بناء على أن غسل الحائض يجب برؤية الدم أم بانقطاعه أم بهما ؟ وفيه أوجه : سبقت في باب ما يوجب الغسل . فإن قلنا برؤيته فهي كالجنب وإلا فلا تغسل قطعا وهو الأصح ، وقد أشار القاضي أبو الطيب والشيخ نصر المقدسي إلى الجزم بأنها لا تغسل بالاتفاق وجعلاه إلزاما لابن سريج .



                                      ( فرع ) لو أصابت الشهيد نجاسة لا بسبب الشهادة فثلاثة أوجه حكاها الخراسانيون وبعض العراقيين ( أصحهما ) : باتفاقهم ، وبه قطع الماوردي والقاضي حسين والجرجاني والبغوي وآخرون يجب غسلها ; لأنها ليست من آثار الشهادة ( والثاني ) : لا يجوز ( والثالث ) : إن أدى غسلها إلى إزالة دم الشهادة لم تغسل وإلا غسلت ، وممن ذكر هذا الثالث إمام الحرمين والغزالي والرافعي .

                                      ( فرع ) ذكر المصنف حديث حنظلة بن الراهب وغسل الملائكة له حين استشهد جنبا ، وذكرنا أنه حديث ضعيف ، قال أصحابنا رحمهم الله : ولو ثبت فالجواب عنه أن الغسل لو كان واجبا لما سقط بفعل الملائكة ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله ، ولهذا احتج القاضي حسين والبغوي بهذا الحديث لترك الغسل ، وهذا الجواب مشهور في كتب الأصحاب وقال القاضي أبو الطيب قال ابن سريج ردا لهذا الجواب : فينبغي أن يجب تكفينه لو كفنته الملائكة بالسندس ، قال القاضي : والجواب أنا لو شاهدنا تكفينه [ ص: 224 ] وستر عورته لم نزد على ذلك ; لأن المقصود ستره وقد حصل ، وأما الغسل فالمطلوب منه تعبد الآدمي به ، وذكر الشيخ نصر المقدسي نحو هذا ، وأما المصنف فقال في كتابه : لو صلت عليه الملائكة أو كفنته في السندس لم يكتف به والله أعلم .



                                      ( الثامنة ) : قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله ينزع عن الشهيد ما ليس من غالب لباس الناس كالجلود والفراء والخفاف والدرع والبيضة والجبة المحشوة وما أشبهها ، وأما باقي الثياب المعتاد لبسها التي قتل فيها فوليه بالخيار إن شاء نزعها وكفنه بغيرها ، وإن شاء تركها عليه ودفنه فيها ، ولا كراهة في واحد من هذين الأمرين ، قالوا : والدفن فيها أفضل والثياب الملطخة بدم الشهادة أفضل ، فإن لم يكن ما عليه كافيا للكفن الواجب وجب إتمامه ، ودليل هذه المسألة حديث جابر السابق وهو في صحيح البخاري رحمه الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم } رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم وفي صحيح البخاري رحمه الله يضعف أبو داود هذا الحديث وعن جابر رضي الله عنه قال { رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم .

                                      وفي صحيح البخاري رحمه الله أن مصعب بن عمير رضي الله عنه قتل يوم أحد فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة ، وقتل حمزة رضي الله عنه فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة .



                                      ( التاسعة ) : الشهداء الذين لم يموتوا بسبب حرب الكفار كالمبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم والغريب والميتة في الطلق ومن قتله مسلم أو ذمي أو مات في غير حال القتال وشبههم ، فهؤلاء يغسلون ويصلى عليهم بلا خلاف ، قال أصحابنا رحمهم الله : ولفظ الشهادة الواردة فيه المراد به أنهم شهداء في ثواب الآخرة لا في ترك الغسل والصلاة .

                                      [ ص: 225 ] واعلم أن الشهداء ثلاثة أقسام : ( أحدها ) : شهيد في حكم الدنيا ، وهو ترك الغسل والصلاة ، وفي حكم الآخرة بمعنى أن له ثوابا خاصا ، وهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذا هو الذي مات بسبب من أسباب قتال الكفار قبل انقضاء الحرب وسبق تفصيله ( والثاني ) : شهيد في الآخرة دون الدنيا ، وهو المبطون والمطعون والغريق وأشباههم ( والثالث ) : شهيد في الدنيا دون الآخرة ، وهو المقتول في حرب الكفار ، وقد غل من الغنيمة ، أو قتل مدبرا ، أو قاتل رياء ، ونحوه فله حكم الشهداء في الدنيا دون الآخرة ، والدليل ، للقسم الثاني أن عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم غسلوا وصلي عليهم بالاتفاق ، واتفقوا على أنهم شهداء والله أعلم .



                                      ( العاشرة ) : في حكمة ترك غسل الشهيد والصلاة عليه . قال الشافعي في الأم : لعل ترك الغسل والصلاة لأن يلقوا الله بكلومهم ، لما جاء أن ريح دمهم ريح المسك ; واستغنوا بإكرام الله لهم عن الصلاة عليهم ، مع التخفيف على من بقي من المسلمين ، لما يكون فيمن قاتل في الزحف من الجراحات ، وخوف عودة العدو ، ورجاء طلبهم وهمهم بأهلهم ، وهم أهليهم بهم والله أعلم .



                                      ( فرع ) ( في مذاهب العلماء في غسل الشهيد والصلاة عليه ) قد ذكرنا أن مذهبنا تحريمها ، وبه قال جمهور العلماء ، وهو قول عطاء والنخعي وسليمان بن موسى ويحيى الأنصاري والحاكم وحماد والليث ومالك وتابعيه من أهل المدينة ، وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر . وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري : يغسل ويصلى عليه ، وقال أبو حنيفة والثوري والمزني : يصلى عليه ولا يغسل . واحتج لأبي حنيفة بأحاديث أن { النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد ، وصلى على حمزة صلوات } .

                                      ( ومنها ) رواية أبي مالك الغفاري رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد : عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة } رواه أبو داود في المراسيل . [ ص: 226 ] وعن شداد بن الهادي { أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وذكر الحديث بطوله ، وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم } رواه النسائي ، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية للبخاري صلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات . واحتج أصحابنا بحديث جابر أن { النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا } رواه البخاري وعن جابر أيضا أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أحد : لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة . ولم يصل عليهم } رواه الإمام أحمد وعن : أنس { أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم } رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح .

                                      ( وأما ) الأحاديث التي احتج بها القائلون في الصلاة فاتفق أهل الحديث على ضعفها كلها إلا حديث عقبة بن عامر ، والضعف فيها بين ، قال البيهقي وغيره وأقرب ما روي حديث أبي مالك ، وهو مرسل ، وكذا حديث شداد مرسل أيضا فإنهما تابعان . وأما حديث عقبة فأجاب أصحابنا وغيرهم بأن المراد من الصلاة هنا الدعاء .

                                      ( وقوله ) : صلاته على الميت . أي : دعا لهم كدعاء صلاة الميت ، وهذا التأويل لا بد منه ، وليس المراد صلاة الجنازة المعروفة بالإجماع ; لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله عند موته بعد دفنهم بثمان سنين ، ولو كان صلاة الجنازة المعروفة لما أخرها ثمان سنين ، ودليل آخر وهو أنه لا يجوز أن يكون المراد صلاة الجنازة بالإجماع ; لأن عندنا لا يصلى على الشهيد ، وعند أبي حنيفة رحمه الله يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام ، فوجب تأويل الحديث ; ولأن أبا حنيفة لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، ، وهذا منها والله أعلم .

                                      ( فإن قيل ) : ما ذكرتموه من حديث جابر لا يحتج به ; لأنه نفي وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من رواية الإثبات ( فأجاب أصحابنا ) بأن شهادة [ ص: 227 ] النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد ، ولم تكن محصورة ( أما ) ما أحاط به علمه وكان محصورا فيقبل بالاتفاق ، وهذه قصة معينة أحاط بها جابر وغيره علما ، وأما رواية الإثبات فضعيفة فوجودها كالعدم إلا حديث عقبة وقد أجبنا عنه ، واشتد إنكار الشافعي في الأم وتشنيعه على من يقول : يصلى على الشهيد ، محتجا برواية الشعبي وغيره : " أن حمزة رضي الله عنه صلي عليه سبعون صلاة ، وكان يؤتى بتسعة من القتلى وحمزة عاشرهم فيصلى عليهم ، ثم يرفعون وحمزة مكانه ، ثم يؤتى بتسعة آخرين فيصلى عليهم وعلى حمزة حتى صلي عليه سبعون صلاة " . قال الشافعي رحمه الله : وشهداء أحد اثنان وسبعون شهيدا فإذا صلى عليهم عشرة فالصواب أن لا يكون أكثر من سبع صلوات أو ثمان على أنه صلى على كل تسعة مع حمزة صلاة ، فهذه سبع فمن أين جاءت سبعون صلاة ؟ وإن عنى أنه كبر سبعين تكبيرة فنحن وهم نقول : التكبير أربع فهي ست وثلاثون تكبيرة .

                                      قال الشافعي رحمه الله : ينبغي لمن روى هذا الحديث أن يستحيي على نفسه وقد كان ينبغي له أن لا يعارض به الأحاديث فقد جاءت من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يصل عليهم " هذا آخر كلام الشافعي رحمه الله . وقال إمام الحرمين في الأساليب : معتمدنا في المسألة الأحاديث الصحيحة أنه لم يصل عليهم ، ولم يغسلوا .

                                      ( وأما ) ما ذكروه من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد فخطأ لم يصححه الأئمة ; لأنهم رووا أنه كان يؤتى بعشرة عشرة وحمزة أحدهم فصلى على حمزة سبعين صلاة ، وهذا غلط ظاهر ; لأن الشهداء سبعون ، وإنما يخص حمزة سبعين صلاة لو كانوا سبعمائة ، ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إذا صلي على الميت لم يصل عليه مرة أخرى ، وبالاتفاق منا ومنه ، فإن من صلى مرة لا يصلي هو ثانية ; ولأن الغسل لا يجوز عندنا وعندهم ، وهو شرط في الصلاة على غير الشهداء ، فوجب أن لا تجوز الصلاة على الشهيد بلا غسل .

                                      ( فإن قالوا ) سبب ترك الغسل بقاء أثر الشهادة لقوله صلى الله عليه وسلم " زملوهم بكلومهم " فظهر سبب ترك الغسل وبقيت الصلاة مشروعة [ ص: 228 ] كما كانت ( فالجواب ) أنه لو كان المعتبر بقاء الدم لوجب أن يغسل من قتل في المعترك خنقا أو بمثقل ، ولم يظهر دم ; ولأنه لو كان المراد بقاء الدم ليمم ، قال : وليس معنى الحديث ترك الغسل بسبب ، وإنما المراد نفي توهم من يظن أن الغسل متعين لإزالة الأذى ، فقال صلى الله عليه وسلم { : زملوهم وادفنوهم بدمائهم ولا تهتموا بإزالتها عنهم ، فإنهم يبعثون يوم القيامة وعليهم الدماء } قال : والذي يوضح هذا أنا نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن الدماء التي يدفنون بها تبقى إلى يوم القيامة ، فثبت بما ذكرناه بطلان قولهم : إن ترك الغسل للدم ، فيجب أن يقال الشهادة تطهير للمقتول عن الذنوب فيغني عن التطهير بالماء ، وهذا يقتضي ترك الصلاة أيضا ، فإنها شرعت لتطهيره بشفاعة المصلين .

                                      ( فإن قيل : ) الصبي طاهر ويصلى عليه ( قلنا ) : الشهادة أمر طارئ يقتضي رتبة عظيمة وتمحيصا ، فلا يبعد أن يقال : إنه مغن عن الغسل والصلاة ، والصبي - وإن لم يكن مكلفا - فلم يطرأ عليه ما يقتضي مرتبة ، والطريقة السديدة عندنا في ترك الغسل أنه غير معلل ; لأنا أبطلنا عليهم ، وما ذكرنا من التطهير ربما لا يستقيم على السير كما ينبغي ، فنقول إذا امتنع الغسل وبدله فهو كحي لم يجد ماء ولا ترابا ، فإنه لا يصلي الفرض عندهم والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهبهم في الصبي إذا استشهد مذهبنا أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ، وبه قال الجمهور وحكاه العبدري عن أكثر الفقهاء ، منهم مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد ، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور واختاره ، وقال أبو حنيفة : يغسل ويصلى عليه . دليلنا أنه مسلم قتل في معترك المشركين بسبب قتالهم فأشبه البالغ والمرأة . واحتج بأنه لا ذنب له . قلنا : يغسل ويصلى عليه في غير المعترك ، وإن لم يكن من أهل الذنب .

                                      ( فرع ) إذا رفسته دابة في حرب المشركين أو عاد عليه سلاحه أو تردى من جبل أو في بئر حال مطاردته فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يغسل ولا يصلى عليه وكذا لو وجد ميتا ولا أثر عليه ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : يغسل ويصلى عليه دليلنا ما سبق في الفرع قبله . [ ص: 229 ] فرع ) في مذاهبهم في كفن الشهيد مذهبنا أنه يزال ما عليه من حديد وجلود وجبة محشوة وكل ما ليس في عام لباس الناس : ثم وليه بالخيار إن شاء كفنه بما بقي عليه ، مما هو من عام لباس الناس ، وإن شاء نزعه وكفنه بغيره وتركه أفضل كما سبق . وقال مالك وأحمد : لا ينزع عنه فرو ولا خف ولا محشو ولا يخير وليه في نزع شيء ، ولأصحاب داود خلاف كالمذهبين ، وأجمع العلماء على أن الحديد والجلود ينزع عنه ، وسبق دليلنا والأحاديث الواردة في ذلك .



                                      ( فرع ) المقتول ظلما في البلد بحديد أو غيره ، يغسل ويصلى عليه عندنا ، وبه قال مالك وأحمد . وقال أبو حنيفة وصاحباه : إذا قتل بحديدة صلي عليه ولم يغسل . دليلنا القياس على القتل بمثقل ، فقد أجمعنا أنه يغسل ويصلى عليه ، وقال ابن سريج وابن أبي هريرة : يغسل ولا يصلى عليه ، وسبق دليل الجميع .



                                      ( فرع ) إذا انكشفت الحرب عن قتيل مسلم لم يغسل ولم يصل عليه عندنا سواء كان به أثر أم لا ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة وأحمد : إن لم يكن به أثر غسل وصلي عليه .



                                      ( فرع ) مذهبنا الصلاة على المقتول من البغاة ، وبه قال أحمد وداود ، وقال أبو حنيفة : لا يغسلون ولا يصلى عليهم . وقال مالك : لا يصلي عليهم الإمام وأهل الفضل .



                                      ( فرع ) إذا قتلت البغاة رجلا من أهل العدل فالأصح عندنا أنه يجب غسله والصلاة عليه ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة : لا يغسل ولا يصلى عليه ، وعن أحمد روايتان كالمذهبين .



                                      ( فرع ) القتيل بحق في حد زنا أو قصاص يغسل ويصلى عليه عندنا وذلك واجب ، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وعطاء والنخعي والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي ، وقال [ ص: 230 ] الزهري : يصلى على المقتول قصاصا دون المرجوم ، وقال مالك رحمه الله : لا يصلي الإمام على واحد منهما ، وتصلي عليه الرعية .

                                      ( فرع ) من قتل نفسه أو غل في الغنيمة يغسل ويصلى عليه عندنا ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وداود ، وقال أحمد : لا يصلي عليهما الإمام وتصلي بقية الناس .

                                      ( فرع ) مذهبنا وجوب غسل ولد الزنا والصلاة عليه ، وبه قال جمهور العلماء وحكاه ابن المنذر عن أكثر العلماء ، قال : وبه قال النخعي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق ، وقال قتادة : لا يصلى عليه .

                                      ( فرع في الإشارة إلى دلائل المسائل السابقة ) ثبت في صحيح مسلم رحمه الله من رواية عمران بن حصين وبريدة أن { النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المرجومة في الزنا } وثبت في البخاري من رواية جابر رضي الله عنه { أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ماعز بعد أن رجمه } وفي غير البخاري " أنه لم يصل عليه " وفي مسلم عن جابر بن سمرة { أن رجلا قتل نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم } وروى الدارقطني والبيهقي بإسنادهما الصحيح عن مكحول عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { صلوا خلف كل بر وفاجر وصلوا على كل بر وفاجر وجاهدوا مع كل بر وفاجر } قالا : هذا منقطع ، فلم يدرك مكحول أبا هريرة رضي الله عنه قال البيهقي : قد روي في الصلاة على كل بر وفاجر ، وعلى من قال لا إله إلا الله أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف ، قال : وأصح ما فيه هذا المرسل والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بالباب ( إحداها ) : إذا قتلنا تارك الصلاة غسل وكفن وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين ورفع قبره كغيره كما يفعل بسائر أصحاب الكبائر . هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه حكاه الخراسانيون عنأبي العباس بن القاص صاحب التلخيص أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ، ويطمس قبره [ ص: 231 ] تغليظا عليه ، وتحذيرا من حاله ، وهذا ضعيف والله أعلم .



                                      وأما قاطع الطريق فيبنى أمره على صفة قتله وصلبه ، وفيه قولان : مشهوران في باب حد قاطع الطريق ، الصحيح أنه يقتل ، ثم يغسل ويصلى عليه ، ثم يصلب مكفنا ( والثاني ) : يصلب حيا ثم يقتل ، وهل ينزل بعد ثلاثة أيام أم يبقى حتى يتهرى ؟ فيه وجهان : ، إن قلنا بالأول ، أنزل فغسل وصلي عليه ، وإن قلنا بالثاني لم يغسل ولم يصل عليه . قال إمام الحرمين : وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوبا ، وينزل ويغسل ويصلى عليه ثم يرد ولكن لم يذهب إليه أحد . وقال بعض أصحابنا : لا يغسل ولا يصلى عليه على كل قول .



                                      ( الثانية ) : قال صاحب البحر رحمه الله : لو صلي على الأموات الذين ماتوا في يومه وغسلوا في البلد الفلاني ولا يعرف عددهم جاز ( قلت : ) لا حاجة إلى التخصيص ببلد معين ، بل لو صلي على أموات المسلمين في أقطار الأرض الذين ماتوا في يومه ممن تجوز الصلاة عليهم جاز وكان حسنا مستحبا ; لأن الصلاة على الغائب صحيحة عندنا ، ومعرفة أعيان الموتى وأعدادهم ليست شرطا ، والله أعلم .



                                      ( الثالثة ) : تكره الصلاة على الجنازة في المقبرة بين القبور . هذا مذهبنا وبه قال جمهور العلماء وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وعطاء وابن سيرين وأحمد وإسحاق وأبي ثور قال : وبه أقول ، ولم يكرها أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز . وعن مالك ، روايتان كالمذهبين .




                                      الخدمات العلمية