الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب الوصية في الثلث لا تتعدى

                                                                                                          حدثني مالك عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فقلت فالشطر قال لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت حتى ما تجعل في في امرأتك قال فقلت يا رسول الله أأخلف بعد أصحابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة

                                                                                                          قال يحيى سمعت مالكا يقول في الرجل يوصي بثلث ماله لرجل ويقول غلامي يخدم فلانا ما عاش ثم هو حر فينظر في ذلك فيوجد العبد ثلث مال الميت قال فإن خدمة العبد تقوم ثم يتحاصان يحاص الذي أوصي له بالثلث بثلثه ويحاص الذي أوصي له بخدمة العبد بما قوم له من خدمة العبد فيأخذ كل واحد منهما من خدمة العبد أو من إجارته إن كانت له إجارة بقدر حصته فإذا مات الذي جعلت له خدمة العبد ما عاش عتق العبد قال وسمعت مالك يقول في الذي يوصي في ثلثه فيقول لفلان كذا وكذا ولفلان كذا وكذا يسمي مالا من ماله فيقول ورثته قد زاد على ثلثه فإن الورثة يخيرون بين أن يعطوا أهل الوصايا وصاياهم ويأخذوا جميع مال الميت وبين أن يقسموا لأهل الوصايا ثلث مال الميت فيسلموا إليهم ثلثه فتكون حقوقهم فيه إن أرادوا بالغا ما بلغ

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          3 - باب الوصية في الثلث لا تتعدى

                                                                                                          1495 1450 - ( مالك ، عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ) الزهري المدني الثقة المتوفى سنة أربع ومائة ( عن أبيه ) سعد بن مالك ، أحد العشرة ( أنه قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني ) بدال مهملة ، يزورني ( عام حجة الوداع ) سنة عشر ، هكذا اتفق عليه أصحاب الزهري إلا ابن عيينة فقال : في فتح مكة ، أخرجه الترمذي وغيره ، واتفق الحفاظ على أنه وهم منه ، وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه فقال : بمكة ، ولم يذكر الفتح ، قال الحافظ : وقد وجدت لابن عيينة مستندا عند أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التاريخ وابن سعد من حديث عمرو بن القاري : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة فخلف سعدا مريضا حيث خرج إلى حنين ، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو مغلوب ، فقال : يا رسول الله إن لي مالا وإني أورث كلالة أفأوصي بمالي ؟ الحديث ، وفيه : قلت : يا رسول الله أميت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرا ؟ قال : إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينفع بك أقواما " . الحديث ، فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث ، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن ذلك وقع له مرتين : مرة عام الفتح ولم يكن له وارث من الأولاد أصلا ، ومرة عام حجة الوداع ، وكانت له بنت فقط ( من وجع ) اسم لكل مرض ( اشتد بي ) أي قوي علي ، وفي رواية : أشفيت منه على الموت ( فقلت : يا رسول الله قد بلغ من الوجع ما ترى ) أي الغاية ( وأنا ذو مال ) كثير ; لأن التنوين للكثرة ، وقد جاء صريحا في بعض طرقه : ذو مال كثير ( ولا يرثني إلا ابنة لي ) قال النووي وغيره : معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة أو من النساء ، وإلا فقد كان لسعد عصبات لأنه من زهرة وكانوا كثيرا ، [ ص: 113 ] وقيل : معناه لا يرثني من أصحاب الفروض أو خصها بذكر على تقدير : لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا ابنة ، أو ظن أنها ترث جميع المال أو استكثر لها التركة . قال الحافظ : وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة ، فإن كان محفوظا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عند البخاري في الوصايا والطب ، وهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك وروى عنها ، وماتت سنة سبع عشرة ومائة ، لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد ابنة تسمى عائشة غير هذه ، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى وأمها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة ، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهن متأخرات الإسلام بعد الوفاة النبوية ، فالظاهر أن البنت هي أم الحكم المذكورة لتقدم تزويج سعد بأمها ولم أر من جوز ذلك . وقال في مقدمة الفتح : وهم من قال عائشة لأنها أصغر أولاده . ( أفأتصدق بثلثي مالي ؟ ) بالتثنية والاستفهام للاستخبار ، هكذا رواه الزهري ، ومثله في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الصحيح ، وفيه من رواية سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه : " قلت : يا رسول الله أوصي بمالي كله ؟ " وجمع بينهما بأنه سأل أولا عن الكل ثم عن الثلثين ثم عن النصف ثم عن الثلث ، وذلك مجموع في رواية جرير بن يزيد عن أحمد وبكير بن مسمار عن النسائي ، كلاهما عن عامر بن سعد ، وكذا لهما من طريق محمد بن سعد عن أبيه ، ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن سعد ، والمراد بالتصدق الوصية ، وإن احتمل التنجيز لأن المخرج متحد فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين . ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، قال ) سعد ( فقلت : فالشطر ) بالخفض عطفا على " ثلثي مالي " ، أي : فأتصدق بالنصف ؟ وقيده الزمخشري في الفائق بالنصب بفعل مضمر ، أي : أسمي أو أعين الشطر ، ورجح السهيلي في أماليه الجر ، قال : لأن النصف بإضمار أفعل والخفض مردود ، أي معطوف على قوله " ثلثي مالي " وروي بالرفع مبتدأ خبره تقديره " أتصدق به " .

                                                                                                          ( قال : لا ) وفي الصحيح من وجه آخر عن عامر عن أبيه قال : النصف كثير ، قلت : فالثلث . ( ثم قال ) بعد أن سأل عن الثلث ( رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث ) بالنصب على الإغراء ، أو بفعل مضمر نحو : عين الثلث ، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : مشروع الثلث ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : الثلث كاف ، أو فاعل فعل مقدر ، أي : يكفيك الثلث . ( والثلث كثير ) بمثلثة ، أي بالنسبة إلى ما دونه ، ويحتمل أنه مسوق بالنسبة لبيان الجواز بالثلث ، وأن الأولى أن ينقص عنه وهو ما يبتدره الفهم ، ويحتمل أنه لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل ، أي كثير أجره وأن معناه كثير غير قليل ، [ ص: 114 ] قال الشافعي : وهذا أولى معانيه ، يعني أن الكثرة أمر نسبي ، وعلى الأول عول ابن عباس فقال : " لو غض الناس إلى الربع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الثلث والثلث كثير " . رواه الشيخان وغيرهما ، وغض بغين وضاد معجمتين ، أي نقص . وفي رواية ابن أبي عمر في مسنده : كان أحب إلي . وللإسماعيلي : كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قال : " الثلث والثلث كثير " ، ويؤيده ما في النسائي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد : " أوصيت بمالي كله ، قال : فما تركت لولدك ، أوص بالعشر ، فما زال يقول وأقول حتى قال : أوص بالثلث والثلث كثير أو كبير " . يعني بالمثلثة أو بالموحدة ، وكذا وقع في موطأ التنيسي بالشك ، وكذا في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها ، قال الحافظ : والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة اهـ . وبه يعلم تسمح من قال روي بمثلثة وبموحدة وكلاهما صحيح ; لأنه إنما جاء عند بعض الرواة بالشك ، قال ابن عبد البر : هذا الحديث أصل العلماء في قصر الوصية على الثلث لا أصل لهم غيره . ( إنك ) بالكسر على الاستئناف وبالفتح بتقدير حرف الجر ، أي لأنك ( أن تذر ) بفتح الهمزة والذال المعجمة ، تترك ( ورثتك ) بنتك المذكورة وأولاد أخيك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الصحابي وإخوته ، فعبر بورثة ليدخل البنت وغيرها ممن يرث لو مات إذ ذاك أو بعد ذلك ( أغنياء ) بما تترك لهم ( خير من أن تذرهم عالة ) فقراء ، جمع عائل وفعله يعيل إذا افتقر ( يتكففون الناس ) أي يسألونهم بأكفهم ، يقال : تكفف الناس واستكف إذا بسط كفه للسؤال ، أو سأل ما يكف عنه الجوع ، أو سأل كفافا من طعام ، أو المعنى يطلبون الصدقة من أكف الناس ، ولا ينافي هذا أن قوله : " وأنا ذو مال " يؤذن بكثرته ، فإذا تصدق بثلثيه أو شطره وأبقى ثلثه بين بنته وغيرها لا يصيرون عالة ; لأن ذلك خرج على التقدير لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير ، إذ لو تصدق المريض بثلثيه مثلا ثم طالت حياته ونقص وفني المال فقد تحجف الوصية بالورثة ، فرد الشارع الأمر إلى شيء معتدل وهو الثلث ، وقد روي : أن تذر ، بفتح الهمزة على التعليل وبكسرها على الشرطية ، قال النووي : وهما صحيحان ، وقال القرطبي : لا معنى للشرط هنا لأنه يصير لا جواب له ويبقى خير لا رافع له ، وقال ابن الجوزي : سمعناه من رواة الحديث بالكسر ، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد يعني ابن الخشاب ، وقال : لا يجوز الكسر لأنه لا جواب له لخلو لفظة ( خير ) من الفاء وغيرها مما اشترط في الجواب ، وتعقب بأنه لا مانع من تقديره . وقال ابن مالك : جزاء الشرط قوله " خير " وحذف الفاء جائز كقراءة طاوس : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ) ( سورة البقرة : الآية 220 ) أي فهو خير ، ومن خص ذلك بالشعر كقوله : من يفعل الحسنات الله يشكرها . فقد بعد عن التحقيق وضيق حيث لا ضيق لأنه كثير في [ ص: 115 ] الشعر قليل في غيره ، قال : ونظيره قوله في حديث اللقطة ، أي في بعض رواياته فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها بحذف الفاء ، وقوله في حديث اللعان : البينة وإلا حد في ظهرك ، ثم عطف على قوله : إنك إن تذر ما هو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث ، فقال : ( وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها ) تطلب ( وجه الله ) ذاته عز وجل ( إلا أجرت ) بضم الهمزة مبني للمفعول ، فهو علة للنهي كأنه قيل : لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء وإن عشت تصدقت وأنفقت ، فالأجر حاصل لك في الحالين ونبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان ( حتى ما تجعل ) أي الذي تجعله ( في في ) أي فم ( امرأتك ) وفي رواية في الصحيح : " اللقمة ترفعها إلى في امرأتك " . وقول ابن بطال " تجعل " بالرفع و " ما " كافة كفت حتى عملها تعقبه في المصابيح بأنه لا معنى للتركيب حينئذ إن تأملت ، بل هي اسم موصول وحتى عاطفة ، أي إلا أجرت بتلك النفقة حتى بالشيء الذي تجعله في فم امرأتك ، ولا يرد أن شرط حتى العاطفة على المجرور وإعادة الخافض ; لأن ابن مالك قيده بأن لا تتعين للعطف نحو : عجبت من القوم حتى بنيهم ، ومذهب الكوفيين جواز العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة الخافض ، واختاره ابن مالك لكثرة شواهده نثرا ونظما على أنه لو جعل العطف على المنصوب المتقدم ، أي لن تنفق نفقة حتى الشيء الذي تجعله في في امرأتك ، لاستقام ولم يرد شيئا مما تقدم اهـ . ووجه تعلق هذا بالوصية أن سؤال سعد يشعر بأنه رغب في كثرة الأجر ، فلما منعه من الزيادة على الثلث سلاه بأن جميع ما يفعله في ماله من صدقة ناجزة ومن نفقة ولو واجبة يؤجر بها إذا ابتغى بها وجه الله ، ولعله خص المرأة بالذكر لاستمرار نفقتها دون غيرها .

                                                                                                          قال ابن أبي جمرة : ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية ; لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفيه الأجر ، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره . وقال ابن دقيق العيد : فيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحة النية وابتغاء وجه الله تعالى ، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة ، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله ، ويشق تخليص هذا القصد مما يشوبه ، قال : وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات إذا أديت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها ، فإن قوله : حتى ما تجعل لا تخصيص له بغير الواجب ، ولفظة حتى هنا تقتضي المبالغة في تحصيل الأجر بالنسبة إلى المعنى ، كما يقال : جاء الحاج حتى المشاة . هذا وقول الزين بن المنير عبر بورثتك ولم يقل " بنيك " مع أنه لم يكن له إلا ابنة واحدة ; لأن الوارث حينئذ لم يتحقق لأن سعدا إنما قال ذلك بناء على موته من المرض وبقائها بعده حتى ترثه ، ومن الجائز أن تموت قبله فأجابه صلى الله عليه وسلم بكلام كلي مطابق لكل حالة ، وهو قوله " ورثتك " ولم يخص بنتا من غيرها . تعقبه الحافظ [ ص: 116 ] بأن قوله " أن تذر بنتك " ليس متعينا لأن ميراثه لم يكن منحصرا فيها ، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك منهم هاشم بن عتبة الصحابي ، قتل بصفين ، فعبر بورثتك لتدخل البنت وغيرها ممن يرث لو مات إذ ذاك أو بعد ذلك . قال : وقول الفاكهاني في شرح العمدة عبر بورثتك لأنه اطلع على أن سعدا يعيش ويأتيه أولاد غير البنت ، فكان كذلك وولد له بعد ذلك أربعة بنين لا أعرف أسماءهم ، قصور شديد فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمد ثلاثتهم عن أبيهم سعد ، وذكر مسلم عمر بن سعد في موضع آخر ، ولما ذكرت الثلاثة في هذا الحديث عند مسلم اقتصر القرطبي عليهم فتعقبه بعض شيوخنا بأن له أربعة ذكور غيرهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق ذكرهم ابن المديني وغيره ، وفاته أن ابن سعد ذكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة وهم : عبد الله وعبد الرحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغر وغيرهم وذكر له ثنتي عشرة بنتا وكأن ابن المديني اقتصر على ذكر من روى الحديث منهم . ( قال ) سعد : ( فقلت : يا رسول الله أأخلف ) بهمزة الاستفهام ثم همزة مضمومة وفتح اللام المشددة ، مبني للمفعول ( بعد أصحابي ) المنصرفين معك بمكة لأجل مرضي ، وكانوا يكرهون الإقامة بها لكونهم هاجروا منها وتركوها لله

                                                                                                          ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لن تخلف ) بعد أصحابك ( فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به ) أي بالعمل ( درجة ورفعة ) عند الله ( ولعلك أن تخلف ) بأن يطول عمرك فلا تموت بمكة ، وفي رواية في الصحيح : " وعسى الله أن يرفعك " ، أي يطيل عمرك ( حتى ينتفع بك أقوام ) أي المسلمون بالغنائم بما سيفتح الله على يديك من بلاد الكفر . ( ويضر بك آخرون ) وهم المشركون الهالكون على يديك وجندك . وزعم ابن التين أن النفع ما وقع على يديه من الفتوح كالقادسية وغيرها ، وبالضر ما وقع من تأمير ابنه عمر على الجيش الذين قتلوا الحسين ومن معه . ورده الحافظ بأنه تكلف بلا ضرورة تحمل على إرادة الضر الحاصل من ولده للمسلمين مع أنه وقع منه هو الضرر للكفار . وأقوى من ذلك ما رواه الطحاوي من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه أنه سأل عامر بن سعد عن معنى هذا الحديث فقال : لما أمر سعد على العراق أتي بقوم ارتدوا فاستتابهم ، فتاب بعضهم وامتنع بعضهم فقتلهم ، فانتفع به من تاب وحصل الضرر للآخرين ، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب [ ص: 117 ] فإنه عاش حتى فتح العراق وحصل نفع المسلمين به وضر الكفار ، ومات سنة خمس وخمسين وقيل سنة ثمان وخمسين من الهجرة وهو المشهور ، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسا وأربعين سنة .

                                                                                                          ( اللهم أمض ) بهمزة قطع من الإمضاء وهو الإنفاذ ، أي أتمم ( لأصحابي هجرتهم ) التي هاجروها من مكة إلى المدينة ( ولا تردهم على أعقابهم ) بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم ، قال ابن عبد البر : فيه سد الذريعة ; لأن قوله ذلك لئلا يتذرع بالمرض أحد لأجل حب الوطن . ( لكن البائس ) بموحدة وهمزة وسين مهملة ، الذي عليه أثر البؤس ، أي شدة الفقر والحاجة ( سعد بن خولة ) بفتح المعجمة وإسكان الواو ولام وتاء تأنيث ، القرشي العامري ، وقيل من حلفائهم ، وقيل من مواليهم ، وقيل هو فارسي من اليمن حالف بني عامر وشهد بدرا ، وقال بعضهم في اسمه " خولي " بكسر اللام وشد التحتية ، واتفقوا على أنه بسكون الواو ، وأغرب القابسي فقال بفتحها . وفي رواية الصحيح عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد فقال : يرحم الله ابن عفراء . ولأحمد والنسائي : يرحم الله سعد بن عفراء ثلاث مرات . قال الداودي : هذا غير محفوظ . وقال الدمياطي : هو وهم ، والمعروف ابن خولة ، قال : ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم فالزهري أحفظ منه اهـ . وقد وافقه جماعة . وقال التيمي : يحتمل أن لأمه اسمين خولة وعفراء . قال الحافظ : ويحتمل أن أحدهما اسم والآخر لقب ، أو أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه أو الآخر اسم جدة له ، والأقرب أن عفراء اسم أمه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خولي ( يرثي ) بفتح التحتية وسكون الراء وكسر المثلثة ، يتوجع ويتحزن ( له ) لأجله ( رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ) بفتح الهمزة ولا يصح كسرها ; لأنها شرطية لما يستقبل وهو كان قد ( مات بمكة ) في حجة الوداع كما في الصحيحين ، وبه جزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب ، خلافا لمن قال : مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع ، فتوجع صلى الله عليه وسلم لموته في أرض هاجر منها كما جزم به البخاري وغيره ، وأنه شهد بدرا خلافا لمن قال لم يهاجر ، فسبب بؤسه عدم هجرته ، فإنما بؤسه لأنهم كانوا يكرهون الإقامة في أرض هاجروا منها وتركوها مع حبهم فيها لله تعالى ; فلذا خشي سعد أن يموت بها ، وتوجع صلى الله عليه وسلم لابن خولة أن مات بها ، وروي أنه خلف مع ابن أبي وقاص رجلا وقال : إن توفي بمكة فلا تدفنه بها . والرثاء يطلق على التوجع والتحزن وهذا هو المباح الذي فعله المصطفى ، ويطلق على ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحزن واللوعة ، وهذا لا يجوز لما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه [ ص: 118 ] الحاكم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : " نهى صلى الله عليه وسلم عن المراثي " وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ : نهانا أن نتراثى .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : زعم أهل الحديث أن قوله : يرثي . . . إلخ ، من كلام الزهري . قال الحافظ : وكأنهم استندوا إلى ما رواه الطيالسي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فإنه فصل ذلك ، لكن عند البخاري في الدعوات عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد : البائس سعد بن خولة ، قال سعد يرثي له . . . إلخ ، فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه . وزاد البخاري في الطب عن عائشة بنت سعد عن أبيها : " ثم وضع يده على جبهتي ثم مسح وجهي وبطني ثم قال : اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته ، قال : فما زلت أجد بردها " . ولمسلم : " قلت : فادع الله لي أن يشفيني ، قال : اللهم اشف سعدا ثلاث مرات " . وفي الحديث استحباب زيارة المريض للإمام فمن دونه ، ويتأكد باشتداد المرض ووضع اليد على جبهته ومسح وجهه والعضو الذي يألمه والفسح له بطول العمر ، وجواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع أو يكره من التبرم وعدم الرضا بل لطلب دعاء أو دواء وربما استحب ، وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود ، وإذا جاز ذلك أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز ، وأن أعمال البر والطاعة إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه قام غيره في الثواب والأجر مقامه ، وربما زاد عليه ، وذلك أن سعدا خاف أن يموت في الدار التي هاجر منها فيفوت عليه بعض أجر هجرته ، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملا صالحا من حج أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوض ما فاته من الجهة الأخرى ، والحث على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب وأن صلتهم أفضل ، والإنفاق في وجوه الخير ; لأن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة ، وقد نبه على ذلك بأقل الحظوظ الدنيوية العادية ، وهي وضع اللقمة في فم الزوجة ; إذ لا يكون ذلك غالبا إلا عند الملاعبة والممازحة ، ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصدا صحيحا ، فكيف بما فوق ذلك ؟ قيل : وجواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له ; لأن مفهوم قوله أن تذر ورثتك أغنياء أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد لأنه لا يترك من يخشى عليه الفقر ، وتعقب بأنه ليس تعليلا محضا وإنما فيه تنبيه على الأحظ الأنفع ، ولو كان تعليلا محضا لاقتضى جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن ورثته أغنياء ، ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم ولا قائل به ، وعلى تقدير أنه تعليل محض فهو للنقص عن الثلث لا للزيادة عليه ، فكأنه لما شرع الإيصاء بالثلث ، وأنه لا اعتراض فيه على الموصي قال : إلا أن الانحطاط عنه أولى ولا سيما لمن ترك ورثته فقراء ، وفيه الاستفسار عن المجمل إذا احتمل وجوها ; لأن سعدا لما منع من الوصية بجميع ماله احتمل عنده المنع [ ص: 119 ] فيما دونه والجواز فاستفسر عنه ، والنظر في مصالح الورثة ، وأن خطاب الشارع الواحد يعم من كان بصفته من المكلفين لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد ، واحتج به من قال بالرد على ذوي الأرحام للحصر في قوله : ولا يرثني إلا ابنة لي ، وتعقب بأن المراد من ذوي الفروض كما مر ، ومن قال بالرد لا يقول بظاهره لأنهم يعطونها فرضها ثم يردون عليها الباقي ، وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداء ، وأخرجه البخاري في الجنائز عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ، وتابعه جماعة ، وتابع شيخه الزهري جماعة في الصحيحين وغيرهما وطرقه كثيرة . ( مالك في الرجل يوصي بثلث ماله لرجل ويقول : غلامي يخدم فلانا ما عاش ثم هو حر ) بعد موت فلان ( فينظر في ذلك ، فيوجد العبد ثلث مال الميت ، قال : فإن خدمة العبد ) وفي نسخة الغلام ( تقوم ثم يتحاصان ، يحاص الذي أوصي له بالثلث بثلثه ويحاص الذي أوصي له بخدمة العبد بما قوم له من خدمة العبد ، فيأخذ كل واحد منهما من خدمة العبد أو من إجارته إن كانت له إجارة بقدر حصته ، فإذا مات الذي جعلت له خدمة العبد ما عاش عتق العبد ) عملا بالوصية .

                                                                                                          ( مالك : في الذي يوصي في ثلثه فيقول لفلان كذا وكذا ولفلان كذا وكذا يسمي مالا من ماله ، فيقول ورثته : قد زاد على ثلثه ، فإن الورثة يخيرون بين أن يعطوا أهل الوصايا وصاياهم ويأخذوا جميع مال الميت ) الباقي بعد إعطائهم ( وبين أن يقسموا لأهل الوصايا ثلث مال الميت فيسلموا إليهم ثلثه فتكون حقوقهم فيه إن أرادوا بالغا ما بلغ ) لأن الورثة [ ص: 120 ] كما لم يمكنوا الميت من بخس حقوقهم فلا يبخسون حقه ، فإما أجازوا فعله وإلا دفعوا جميع ماله وهو الثلث ، وتلقب هذه المسألة بخلع الثلث ولها صور في الفروع .




                                                                                                          الخدمات العلمية