الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب الوصية للوارث والحيازة

                                                                                                          قال يحيى سمعت مالكا يقول في هذه الآية إنها منسوخة قول الله تبارك وتعالى إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين نسخها ما نزل من قسمة الفرائض في كتاب الله عز وجل قال وسمعت مالك يقول السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت وأنه إن أجاز له بعضهم وأبى بعض جاز له حق من أجاز منهم ومن أبى أخذ حقه من ذلك قال وسمعت مالك يقول في المريض الذي يوصي فيستأذن ورثته في وصيته وهو مريض ليس له من ماله إلا ثلثه فيأذنون له أن يوصي لبعض ورثته بأكثر من ثلثه إنه ليس لهم أن يرجعوا في ذلك ولو جاز ذلك لهم صنع كل وارث ذلك فإذا هلك الموصي أخذوا ذلك لأنفسهم ومنعوه الوصية في ثلثه وما أذن له به في ماله قال فأما أن يستأذن ورثته في وصية يوصي بها لوارث في صحته فيأذنون له فإن ذلك لا يلزمهم ولورثته أن يردوا ذلك إن شاءوا وذلك أن الرجل إذا كان صحيحا كان أحق بجميع ماله يصنع فيه ما شاء إن شاء أن يخرج من جميعه خرج فيتصدق به أو يعطيه من شاء وإنما يكون استئذانه ورثته جائزا على الورثة إذا أذنوا له حين يحجب عنه ماله ولا يجوز له شيء إلا في ثلثه وحين هم أحق بثلثي ماله منه فذلك حين يجوز عليهم أمرهم وما أذنوا له به فإن سأل بعض ورثته أن يهب له ميراثه حين تحضره الوفاة فيفعل ثم لا يقضي فيه الهالك شيئا فإنه رد على من وهبه إلا أن يقول له الميت فلان لبعض ورثته ضعيف وقد أحببت أن تهب له ميراثك فأعطاه إياه فإن ذلك جائز إذا سماه الميت له قال وإن وهب له ميراثه ثم أنفذ الهالك بعضه وبقي بعض فهو رد على الذي وهب يرجع إليه ما بقي بعد وفاة الذي أعطيه قال وسمعت مالك يقول فيمن أوصى بوصية فذكر أنه قد كان أعطى بعض ورثته شيئا لم يقبضه فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك فإن ذلك يرجع إلى الورثة ميراثا على كتاب الله لأن الميت لم يرد أن يقع شيء من ذلك في ثلثه ولا يحاص أهل الوصايا في ثلثه بشيء من ذلك

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          5 - باب الوصية للوارث والحيازة

                                                                                                          ( سمعت مالكا يقول في هذه الآية : إنها منسوخة قول ) بالجر بدل والرفع أي وهي قول ( الله تبارك وتعالى ) ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) ( إن ترك خيرا ) أي مالا ( الوصية ) مرفوع نائب فاعل بكتب ، ومتعلق إذا إن كانت ظرفية ودالا على جوابها إن كانت شرطية ، وجواب إن فليوص ( للوالدين والأقربين ) بالمعروف حقا على المتقين ( نسخها ما نزل من قسمة الفرائض ) لأنه يشعر بأنه لا يجمع بين الميراث والوصية ( في كتاب الله عز وجل ) كما قال ابن عباس : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله من ذلك [ ص: 122 ] ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، وجعل للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع . ورواه البخاري وابن جرير وهو موقوف لفظا لا أنه في تفسير وأخبار كما كان من الحكم قبل نزول القرآن ، فهو في حكم المرفوع بهذا التقدير ، وقد قال جمهور العلماء : كانت الوصية للوالدين والأقربين على ما يراه الموصي من المساواة والتفضيل ثم نسخ ذلك بآية الفرائض ، وقيل بحديث : " لا وصية لوارث " . وقيل بالإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله ، وزعم ابن سريج أنهم كانوا مكلفين بالوصية للوالدين والأقربين بقدر الفريضة التي في علم الله قبل أن ينزلها ، وشدد إمام الحرمين في إنكار ذلك عليه ، وقال طاوس وغيره : ليست منسوخة بل مخصوصة لأن الأقربين أعم من الوارث ، فكانت الوصية واجبة لجميعهم فخص منها من ليس بوارث لآية الفرائض والحديث ، وبقي حق من لا يرث من الأقربين على حاله .

                                                                                                          - ( مالك : السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث ) لما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمامة : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " . وفي إسناده إسماعيل بن عياش ، وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة منهم أحمد والبخاري ، وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم ، وهو شامي ثقة ، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي والنسائي ، وجاء من حديث أنس عند ابن ماجه ، وعلي عند ابن أبي شيبة ، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وعن جابر كلاهما عند الدارقطني ، وقال : الصواب إرساله ولا يخلو إسناد منها من مقال ، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا ، بل جنح الشافعي في الأم إلى أن المتن متواتر فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم ، لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : " لا وصية لوارث " . ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم ، فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد ، ونازعه الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا ، وعلى تقدير تسليمه فالمشهور من مذهبه أن القرآن لا ينسخ بالسنة ، لكن الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره ، وهو قضية نص الموطأ ، والمراد بعدم صحتها للوارث عدم اللزوم ; لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الوارث كما قال مالك .

                                                                                                          ( إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت ، وإنه إن أجاز له بعضهم وأبى بعض جاز له حق من أجاز منهم ومن أبى أخذ حقه ) لأن المنع في الأصل لحق الورثة ، فإذا أجازوه لم يمتنع ، وقد [ ص: 123 ] روى الدارقطني عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا : " لا تجوز وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة " . ورجاله ثقات ، وإن أعل بأنه قيل إن عطاء هو الخراساني ، فقد وثقه ابن عبد البر وغيره ، فهذه الزيادة حجة واضحة على داود والمزني في قولهما : إنها باطلة للوارث ولغيره بأزيد من الثلث ، لو أجازها الورثة .

                                                                                                          ( وسمعت مالكا يقول في المريض الذي يوصي فيستأذن ورثته وهو مريض ليس له من ماله إلا ثلثه ) يتصرف فيه فيأذنون له ( أن يوصي لبعض ورثته أو ) لغير وارث ( بأكثر من ثلثه : إنه ليس لهم أن يرجعوا في ذلك ) إذا مات من مرضه إلا أن يكون المجيز في عائلته ويخشى من امتناعه قطع معروفه عنه لو عاش فله الرجوع ( ولو جاز لهم ذلك ) أي الرجوع ( صنع كل وارث ذلك ، فإذا هلك الموصي أخذوا ذلك لأنفسهم ، ومنعوه الوصية في ثلثه و ) منعوه ( ما أذن ) بالبناء للمجهول ( له به في ماله ، قال : فأما أن يستأذن ورثته في وصية يوصي بها لوارث في صحته فيأذنون له فإن ذلك لا يلزمهم ) لأنهم أسقطوا قبل الوجوب وقبل جريان سببه ( ولورثته أن يردوا ذلك إن شاءوا ، وذلك أن الرجل إذا كان صحيحا كان أحق بجميع ماله يصنع فيه ما شاء ، إن شاء أن يخرج من جميعه خرج ) وبين الخروج بقوله : ( يتصدق به أو يعطيه من شاء ) فلما لم يكن محجوبا عنه لم يلزمهم إذنهم ; إذ لو شاء لملك من أوصى له في الحال بلا استئذان ( وإنما يكون استئذانه ورثته جائزا على الورثة إذا أذنوا له حين يحجب عنه ماله ) بسبب المرض القوي ( ولا يجوز له شيء إلا في ثلثه ، وحين هم أحق بثلثي ماله منه فذلك حين يجوز عليهم أمرهم وما أذنوا له به ) لكونه بعد جريان السبب فليس من إسقاط الشيء قبل وجوبه [ ص: 124 ] بلا سبب . ( فإن سأل ) المريض ( بعض ورثته أن يهب له ميراثه حين تحضره الوفاة ) أي أسبابها ( فيفعل ثم لا يقضي فيه الهالك شيئا فإنه رد ) مردود ( على من وهبه إلا أن يقول له الميت فلان لبعض ورثته ضعيف وقد أحببت أن تهب له ميراثك فأعطاه إياه ، فإن ذلك جائز إذا سماه الميت له ) لأنها هبة لمعين ( وإن وهب له ميراثه ثم أنفذ الهالك بعضه وبقي بعض فهو ) أي البعض الباقي ( رد على الذي وهب يرجع إليه ما بقي بعد وفاة الذي أعطيه ، مالك : فيمن أوصى بوصية ، فذكر أنه كان قد أعطى بعض ورثته شيئا لم يقبضه ) المعطى ، بالفتح ( فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك ، فإن ذلك يرجع إلى الورثة ميراثا على كتاب الله تعالى ; لأن الميت لم يرد أن يقع شيء من ذلك في ثلثه و ) لذلك ( لا يحاص أهل الوصايا في ثلثه بشيء من ذلك ) .




                                                                                                          الخدمات العلمية