الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        194 166 - وأما حديثه في هذا الباب عن ابن أكيمة الليثي ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : " هل قرأ معي منكم أحد آنفا " ، فقال رجل : نعم ، أنا يا رسول الله ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني أقول ما لي أنازع القرآن " ، فانتهى الناس عن [ ص: 226 ] القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        4850 - فقد ذكرنا ابن أكيمة بما يجب من ذكره في التمهيد .

                                                                                                                        4851 - والاختلاف في اسمه كثير ; فقيل : عمرو ، وقيل : عامر ، وقيل : عمارة ، وقيل : عمر ، وقيل : عمار .

                                                                                                                        [ ص: 227 ] 4852 - وهو من بني ليث من أنفسهم ، يكنى أبا الوليد فيما ذكر الواقدي ، وقال : توفي سنة إحدى ومائة ، وهو ابن تسع وسبعين سنة .

                                                                                                                        4853 - روي عن ابن شهاب ، يقال : إنه لم يرو عنه غيره ، وإن الذي روى عنه محمد بن عمرو ، وهو ابن أخيه ، لا هو . والذي روى عنه محمد بن عمرو هو الذي روى عنه مالك حديث أم سلمة : " إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي " الحديث . والله أعلم .

                                                                                                                        4854 - قال ابن شهاب : كان ابن أكيمة يحدث في مجلس سعيد بن المسيب ، فيصغي إلى حديثه ، وحسبك بهذا فخرا وثناء .

                                                                                                                        4855 - وأما قوله في هذا الحديث : " فانتهى الناس عن القراءة " إلى آخر الحديث - فأكثر رواة ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام ابن شهاب ، ومنهم من يجعله كلام أبي هريرة . وقد أوضحنا ذلك كله في التمهيد .

                                                                                                                        4856 - وفقه هذا الحديث الذي من أجله جيء به هو ترك القراءة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة ; فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر ، لا بأم القرآن ولا بغيرها ، على ظاهر هذا الحديث وعمومه .

                                                                                                                        [ ص: 228 ] 4857 - وهذا موضع اختلفت فيه الآثار عن النبي - عليه السلام - ، واختلف فيه العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                        4858 - أحدها : يقرأ معه فيما أسر فيه ، ولا يقرأ معه فيما جهر .

                                                                                                                        4859 - والثاني : لا يقرأ معه ، لا فيما أسر ولا فيما جهر .

                                                                                                                        4860 - والثالث : يقرأ معه بأم القرآن خاصة فيما جهر ، وبأم القرآن وسورة فيما أسر .

                                                                                                                        4861 - فأما القول الأول فقال مالك : الأمرعندنا أن يقرأ الرجل مع الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة ، ويترك القراءة معه فيما يجهر فيه بالقراءة .

                                                                                                                        4862 - وهو قول سعيد بن المسيب ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وابن شهاب ، وقتادة .

                                                                                                                        4863 - وبه قال عبد الله بن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود ، والطبري .

                                                                                                                        4864 - إلا أن أحمد بن حنبل قال : إن سمع في صلاة الجهر لم يقرأ ، وإن لم يسمع قرأ .

                                                                                                                        4865 - ومن أصحاب داود من قال : لا يقرأ فيما قرأ إمامه وجهر ، ومنهم من قال : يقرأ ، وأوجبوا كلهم القراءة إذا أسر .

                                                                                                                        4866 - واختلف في هذه المسألة عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ; فروي عنهم [ ص: 229 ] أن المأموم لا يقرأ وراء الإمام ، لا فيما أسر ، ولا فيما جهر ، كقول الكوفيين .

                                                                                                                        4867 - وروي عنهم أنه يقرأ فيما أسر ، ولا يقرأ معه فيما جهر ، كقول مالك .

                                                                                                                        4868 - وهذا أحد قولي الشافعي ، كان يقوله بالعراق .

                                                                                                                        [ ص: 230 ] 4869 - وروي ذلك عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمر .

                                                                                                                        4870 - والحجة لهذا القول - وهو المختار عندنا - قول الله - تعالى - : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ سورة الأعراف : 304 ] .

                                                                                                                        4871 - وهذا عند أهل العلم عند سماع القرآن في الصلاة ، لا يختلفون أن هذا الخطاب نزل في هذا المعنى دون غيره .

                                                                                                                        4872 - ومعلوم أن هذا لا يكون إلا في صلاة الجهر ; لأن السر لا يستمع إليه .

                                                                                                                        4873 - وقد ذكرنا في " التمهيد " خبر أبي عياض عن أبي هريرة ، قال : كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " ، قال إبراهيم بن مسلم : فقلت لأبي عياض : لقد كنت أظن أنه لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع ، قال : لا إنما ذلك في الصلاة المكتوبة ، فأما في غير الصلاة فإن شئت استمعت وأنصت ، وإن شئت مضيت ، ولم تسمع .

                                                                                                                        4874 - وروى ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة قال : سمعت مجاهدا يقول : ما رأيت أحدا بعد ابن عباس أفقه من أبي عياض .

                                                                                                                        4875 - وروى حماد بن سلمة عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " قال : في الصلاة .

                                                                                                                        4876 - وعن أبي العالية ، والشعبي ، وابن شهاب ، والنخعي ، ومجاهد ، [ ص: 231 ] والحسن البصري ، وعطاء ، وزيد بن أسلم - مثله ، إلا أن مجاهدا زاد ، فقال : في الصلاة والخطبة يوم الجمعة . وهو قول قتادة والضحاك بن مزاحم .

                                                                                                                        4877 - وقد زدنا هذا المعنى بيانا بالأسانيد والأقوال في كتاب التمهيد .

                                                                                                                        4878 - وذكرنا فيه قول ابن مسعود : إذا كنت خلف الإمام فأنصت للقرآن .

                                                                                                                        4879 - وقوله : أتقرءون خلف الإمام ؟ . قالوا : نعم . قال : لا تفقهون ، ما لكم لا تعقلون " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " ؟ .

                                                                                                                        4880 - وفي قوله : أنصت للقرآن ، ونزوعه بقول الله : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " - دليل على أنه أراد الجهر خاصة . والله أعلم . وإن كان الكوفيون يرون عنه ترك القراءة خلف الإمام في السر والجهر .

                                                                                                                        4881 - وفي إجماع أهل العلم على أن قوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " لم يرد كل موضع يسمع فيه القرآن ، وإنما أراد الصلاة - أوضح الدلائل على أنه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه .

                                                                                                                        4882 - ويشهد لهذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإمام : " وإذا قرأ فأنصتوا " .

                                                                                                                        [ ص: 232 ] 4883 - وقد ذكرناه بالأسانيد والطرق في " التمهيد " من حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري .

                                                                                                                        4884 - وقد صحح هذا اللفظ أحمد بن حنبل .

                                                                                                                        4885 - قال أبو بكر الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : من يقول عن النبي - عليه السلام - من وجه صحيح : " إذا قرأ فأنصتوا " ; فقال : حديث ابن عجلان الذي يرويه أبو خالد الأحمر ، والحديث الذي رواه جرير عن التيمي ، وقد زعموا أن المعتمر رواه . قلت : نعم ، قد رواه المعتمر . قال : فأي شيء تريده ؟ فقد صحح أحمد هذين الحديثين .

                                                                                                                        4886 - قال أبو عمر : فأين المذهب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وظاهر كتاب الله - تعالى - .

                                                                                                                        [ ص: 233 ] 4887 - وقال أحمد بن حنبل : من لم يسمع قراءة القرآن فجائز له أن يقرأ .

                                                                                                                        4888 - وقال في موضع آخر : من لم يسمع فعليه أن يقرأ ولو بأم القرآن ; لأن المأمور بالإنصات والاستماع من سمع دون من لم يسمع .

                                                                                                                        4889 - وهو قول سعيد بن جبير وعطاء .

                                                                                                                        4890 - قال عطاء : إذا لم يسمع فإن شاء سبح ، وإن شاء قرأ .

                                                                                                                        4891 - وقد قال بعض أصحاب مالك : لا بأس أن يتكلم يوم الجمعة من لا يسمع الخطبة بما شاء من الخير ، وما به الحاجة إليه .

                                                                                                                        4892 - وأما مالك فكره ذلك في الخطبة ، ولا يجيز القراءة للمأموم في صلاة الجهر ، سمع ، أو لم يسمع .

                                                                                                                        4893 - وقد ذكرنا هذه المسألة في موضعها من هذا الكتاب .

                                                                                                                        4894 - وقال آخرون : لا يترك أحد من المؤمنين خلف إمامه فيما أسر وفيما جهر فيه - القراءة ; لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " عام لا يخصه شيء ، وكذلك قوله : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " .

                                                                                                                        4895 - وممن قال هذا الشافعي بمصر ، وعليه أكثر أصحابه .

                                                                                                                        4896 - وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد ، وبه قال أبو ثور .

                                                                                                                        4897 - وهو قول عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عباس .

                                                                                                                        [ ص: 234 ] 4898 - واختلف فيه عن أبي هريرة .

                                                                                                                        4899 - وبه قال عروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والحسن البصري .

                                                                                                                        4900 - وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في التمهيد .

                                                                                                                        4901 - قال أبو عمر : أما قوله : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " فهو حديث مالك وغيره عن العلاء بن عبد الرحمن ، وقد ذكرناه .

                                                                                                                        4902 - وأما قوله : " لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " فهو حديث ابن شهاب عن محمود بن الربيع ، عن عبادة عن النبي - عليه السلام - . رواه عن ابن شهاب جماعة من أصحابه ، منهم : معمر ، ويونس ، وعقيل ، وابن عيينة ، وشعيب ، وإبراهيم بن سعد . وليس عند مالك عن ابن شهاب من وجه صحيح عن مالك .

                                                                                                                        4903 - وتأول أصحاب الشافعي في قول الله - تعالى - : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " أنه مخصوص بحديث أبي هريرة ، وحديث عبادة ، كأنه قال : استمعوا وأنصتوا بعد قراءة فاتحة الكتاب ; فإنه لا صلاة إلا بها .

                                                                                                                        4904 - وتأول أصحاب مالك أن الآية موقوفة على الجهر في صلاة الإمام دون السر . وهو قول داود .

                                                                                                                        4905 - إلا أن داود يرى أن القراءة بفاتحة الكتاب فيما أسر فيه الإمام بالقراءة فرض ، وأصحاب مالك على الاستحباب في ذلك دون الإيجاب .

                                                                                                                        4906 - واختلف البويطي والمزني عن الشافعي في هذه المسألة :

                                                                                                                        [ ص: 235 ] 4907 - فقال البويطي عن الشافعي : يقرأ المأموم فيما أسر فيه الإمام بأم القرآن وسورة في الأوليين ، وبأم القرآن في الآخرتين ، وما جهر فيه الإمام لا يقرأ إلا بأم القرآن .

                                                                                                                        4908 - قال البويطي : وكذلك يقول الليث والأوزاعي .

                                                                                                                        4909 - وروى المزني عن الشافعي أنه يقرأ فيما أسر وفيما جهر . وهو قول أبي ثور .

                                                                                                                        4910 - وذكر الطبري عن العباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه ، عن الأوزاعي ، قال : يقرأ خلف الإمام فيما أسر وفيما جهر .

                                                                                                                        4911 - وقال : إذا جهر فأنصت ، وإذا قرأ فاقرأ في سكتاته بين القراءتين .

                                                                                                                        4912 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضمرة عن الأوزاعي قال : أخذت القراءة مع الإمام عن عبادة بن الصامت ، ومكحول .

                                                                                                                        4913 - وحجة من ذهب هذا المذهب أنه لا تنوب قراءة أحد عن أحد كما لا ينوب الركوع عن السجود .

                                                                                                                        4914 - ومن جهة الأثر حديث محمد بن إسحاق عن مكحول ، عن [ ص: 236 ] محمود بن الربيع ، عن عبادة بن الصامت ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : " إني لأراكم تقرءون وراء الإمام " ، قالوا : نعم ، قال : " فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ; فإنه لا صلاة إلا بها " .

                                                                                                                        4915 - وفي حديث محمد بن أبي عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أتقرءون وراء الإمام ؟ قالوا : نعم ، قال : " فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب " .

                                                                                                                        4916 - إلا أن حديث محمد بن أبي عائشة منقطع مرسل ، وحديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصل مسند من رواية الثقات . وهذه الأحاديث كلها مذكورة في " التمهيد " .

                                                                                                                        4917 - قال أبو عمر : روى سمرة وأبو هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه [ ص: 237 ] كانت له سكتات في صلاته : حين يكبر ويفتتح الصلاة ، وحين يقرأ بفاتحة الكتاب ، وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع .

                                                                                                                        4918 - قال أبو داود : وكانوا يستحبون أن يسكت عند فراغه من السورة لئلا يتصل التكبير بالقراءة .

                                                                                                                        [ ص: 238 ] 4919 - قال أبو عمر : فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن الإمام يسكت سكتات على ما في هذه الآثار المذكورة ، ويتحين المأموم تلك السكتات من إمامه فيقرأ فيها بأم القرآن ، ويسكت فيها في سائر صلاة الجهر ، فيكون مستعملا للسنة والآية في ذلك .

                                                                                                                        4920 - وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور : حق على الإمام أن يسكت سكتة بعد التكبيرة الأولى ، وسكتة بعد فراغه بقراءة فاتحة الكتاب ، وبعد الفراغ بالقراءة ; ليقرأ من خلفه بفاتحة الكتاب .

                                                                                                                        4921 - قالوا : فإن لم يفعل الإمام فاقرأ معه بفاتحة الكتاب على كل حال .

                                                                                                                        4922 - وأما مالك فأنكر السكتات ، ولم يعرفها ; قال : لا يقرأ أحد مع الإمام إذا جهر ، لا قبل القراءة ، ولا بعدها .

                                                                                                                        4923 - وقد ذكرنا علل حديث السكتتين ، وعلة حديث ابن إسحاق في كتاب التمهيد ، وكذلك حديث محمد بن أبي عائشة .

                                                                                                                        [ ص: 239 ] 4924 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : ليس على الإمام أن يسكت إذا كبر ، ولا إذا فرغ من قراءة أم القرآن ، ولا إذا فرغ من القراءة . ولا يقرأ أحد خلف إمامه لا فيما أسر ولا فيما جهر .

                                                                                                                        4925 - وهو قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله .

                                                                                                                        4926 - وروي ذلك عن علي وابن مسعود .

                                                                                                                        4927 - وبه قال الثوري ، وابن عيينة ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن حي .

                                                                                                                        4928 - وهو قول جماعة من التابعين بالعراق .

                                                                                                                        4929 - وحجة من قال بهذا القول حديث جابر عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " من كان له إمام فقراءته له قراءة " .

                                                                                                                        [ ص: 240 ] 4930 - وهذا الحديث رواه جابر الجعفي عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                                                                                        4931 - وجابر الجعفي لا حجة فيما ينفرد به عند جماعة أهل العلم لسوء مذهبه ، وكان الثوري وشعبة يثنيان عليه بالحفظ ، وأما ابن عيينة فكان يحمل عليه .

                                                                                                                        [ ص: 241 ] [ ص: 242 ] 4932 - وروى يحيى بن سلام عن مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : " كل ركعة لا يقرأ فيها بأم القرآن فلم تصل إلا وراء إمام " .

                                                                                                                        4933 - وهو حديث لا يصح إلا موقوفا على جابر .

                                                                                                                        4934 - واحتجوا أيضا بحديث ابن مسعود ، قال : كانوا يقرءون خلف النبي - عليه السلام - ، فقال : " خلطتم علي " .

                                                                                                                        4935 - وهذا لا حجة فيه ، وإنما معناه في الجهر ; لأن التخليط لا يقع في صلاة السر .

                                                                                                                        [ ص: 243 ] 4936 - ويبين ذلك حديث هذا الباب ، قوله - عليه السلام - : " مالي أنازع القرآن ؟ " ، وهذا في الجهر على ما قدمنا .

                                                                                                                        4937 - واحتجوا بحديث عمران بن حصين أن النبي - عليه السلام - صلى صلاة الظهر ، فلما قضى صلاته قال : أيكم قرأ " سبح اسم ربك الأعلى " ، فقال بعضهم : أنا ، فقال : " قد عرفت أن بعضكم خالجنيها " .

                                                                                                                        4938 - وهذا الحديث رواه شعبة وجماعة عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن عمران بن حصين .

                                                                                                                        4939 - قال شعبة : قلت لقتادة : ألست تقول لسعيد بن المسيب : أنصت للقرآن ؟ قال : ذلك إذا جهر ، قلت : فقد كرهه هنا ، قال : لو كرهه نهى عنه .

                                                                                                                        4940 - وقال بعض القائلين بقول الكوفيين : قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " خاص به من صلى وحده ، أو كان إماما . وكذلك فسره ابن عيينة .

                                                                                                                        4941 - فأما من صلى وراء إمام فإن قراءته قراءة له .

                                                                                                                        4942 - واحتجوا بأن جمهور العلماء مجمعون على أن الإمام إذا لم يقرأ وقرأ من خلفه لم تنفعهم قراءتهم ; فدل على أن قراءة الإمام التي تراعى ، وأن قراءته - كما جاء في الحديث - قراءة لمن خلفه .

                                                                                                                        [ ص: 244 ] 4943 - ورووا عن عمر بن الخطاب أنه لم يقرأ في صلاة صلاها فأعاد بهم الصلاة .

                                                                                                                        4944 - ورووا عن علي بن أبي طالب أنه قال : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة .

                                                                                                                        4945 - وهذا لو صح احتمل أن يكون في صلاة الجهر ; لأنه حينئذ يخالف الكتاب والسنة ، فكيف وهو غير ثابت عن علي لما ذكرنا من رواية عبيد الله بن أبي رافع عنه خلافه ؟ .

                                                                                                                        4946 - وكذلك قول زيد بن ثابت : من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له - منكر ، لا يصح عنه .

                                                                                                                        [ ص: 245 ] 4947 - وقد أجمع العلماء على أن من قرأ خلف الإمام فصلاته تامة ، ولا إعادة عليه ; فدل على فساد ما روي عن زيد بن ثابت .

                                                                                                                        4948 - وكذلك الحديث المروي عن سعد بن أبي وقاص ، أنه قال : وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر - حديث منقطع ، لا يصح ، ولا نقله ثقة .

                                                                                                                        4949 - وقد تكلمنا على أحاديث هذا الباب في التمهيد .

                                                                                                                        4950 - وما أعلم في هذا الباب من الصحابة من صح عنه ما ذهب إليه الكوفيون فيه من غير اختلاف عنه ، إلا جابر بن عبد الله وحده ; فإن عبد الرزاق ذكر عن داود بن قيس ، عن عبد الله بن مقسم ، قال : سألت جابر بن عبد الله : أتقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر ؟ قال : لا .

                                                                                                                        4951 - وأما جملة اختلاف العلماء في حكم القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه الإمام بالقراءة - فإن الكوفيين ذهبوا إلى ما ذكرنا من كراهية القراءة خلفه فيما أسر [ ص: 246 ] وفيما جهر ، وهو قول أصحاب ابن مسعود ، وإبراهيم النخعي ، وسفيان ، وأبي حنيفة ، وسائر أهل الكوفة . وحجتهم ما وصفنا .

                                                                                                                        4952 - وقال فقهاء الحجاز والشام وأكثر البصريين : القراءة مع الإمام فيما يسر فيه بالقراءة ، وهو قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وداود ، والطبري ، وحجتهم ما قدمنا ذكره في هذا الباب .

                                                                                                                        4953 - ثم اختلف هؤلاء في وجوب القراءة إذا أسر الإمام :

                                                                                                                        4954 - فتحصيل مذهب مالك عند أصحابه أن القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه بالقراءة سنة ، ومن تركها فقد أساء ، ولا يفسد ذلك عليه صلاته .

                                                                                                                        4955 - وكذلك قال الطبري : القراءة فيما أسر فيه الإمام سنة مؤكدة ، ولا تفسد صلاة من تركها وقد أساء .

                                                                                                                        4956 - وقد ذكر ابن خويز منداد أن القراءة خلف الإمام عند أصحاب مالك فيما أسر فيه الإمام بالقراءة - مستحبة ، غير واجبة .

                                                                                                                        4957 - وكذلك قال الأبهري ، وإليه أشار إسماعيل بن إسحاق ، وذكره في الأحكام له .

                                                                                                                        [ ص: 247 ] 4958 - قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد عن أسامة بن زيد ، قال : سألت القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه ، فقال : إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة ، وإن لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة .

                                                                                                                        4959 - قال : وحدثنا القعنبي ، قال : حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : إني لأحب أن أشغل نفسي بالقراءة فيما لم يجهر فيه الإمام بالقراءة عن حديث النفس في الظهر والعصر ، والثالثة من المغرب ، والآخرتين من العشاء .

                                                                                                                        4960 - وقال الأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود - : القراءة خلف الإمام فيما أسر فيه واجبة ، ولا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة منها بفاتحة الكتاب أقل شيء إذا أسر الإمام القراءة ; لأن الإنصات إنما كان للجهر بالقراءة ; لقول الله - تعالى - : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ سورة الأعراف : 204 ] ، ولقوله - عليه السلام - : " ما لي أنازع القرآن " . وقد ارتفعت هذه العلة في صلاة السر ; فوجب على كل مصل أن يقرأ لنفسه ، ولا تنوب عند واحد من هؤلاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم ، كما لا ينوب عنه إحرامه ، ولا ركوعه ، ولا سجوده .

                                                                                                                        4961 - وقد تكرر هذا المعنى وتلخيص مذهب كل واحد من العلماء مجملا ومفسرا في هذا الباب .

                                                                                                                        [ ص: 248 ] 4962 - قال أبو عمر : للشافعي في هذه المسألة أربعة أقوال ، وقد ذكرناها في التمهيد .




                                                                                                                        الخدمات العلمية