الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 807 ] اعلم أنا قد قدمنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكما أو لا ، وذكرنا أنه لا خلاف في أن بعض الأشياء يدركها العقل ، ويحكم فيها ، كصفات الكمال ، والنقص ، وملاءمة الغرض ، ومنافرته .

                        وأحكام العقل باعتبار مدركاته تنقسم إلى خمسة أحكام ، كما انقسمت الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام :

                        ( الأول ) : الوجوب ، كقضاء الدين .

                        ( والثاني ) : التحريم ، كالظلم .

                        ( والثالث ) : الندب ، كالإحسان .

                        ( والرابع ) : الكراهة ، كسوء الأخلاق .

                        ( والخامس ) : الإباحة ، كتصرف المالك في ملكه .

                        وهاهنا مسألتان

                        المسألة الأولى

                        هل الأصل فيما وقع فيه الخلاف ، ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوعه ؛ الإباحة أو المنع أو الوقف ؟ [ ص: 808 ] فذهب جماعة من الفقهاء ، وجماعة من الشافعية ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور إلى أن الأصل الإباحة .

                        وذهب الجمهور إلى أنه لا يعلم حكم الشيء إلا بدليل يخصه ، أو يخص نوعه ، فإذا لم يوجد دليل كذلك فالأصل المنع .

                        وذهب الأشعري ، وأبو بكر الصيرفي ، وبعض الشافعية ، إلى الوقف بمعنى لا يدري هل هناك حكم أم لا ؟

                        وصرح الرازي في المحصول : أن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع .

                        احتج الأولون بقوله - تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فإنه - سبحانه - أنكر على من حرم ذلك ، فوجب أن لا تثبت حرمته ، وإذا لم تثبت حرمته امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراده ؛ لأن المطلق جزء من المقيد ، فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراده ، لثبتت الحرمة في زينة الله ، وفي الطيبات من الرزق ، وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة .

                        واحتجوا أيضا بقوله - تعالى - : أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب الحلال ، وإلا لزم التكرار ، فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا ، وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها .

                        واحتجوا أيضا بقوله - تعالى : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا واللام تقتضي الاختصاص بما فيه منفعة .

                        واحتجوا - أيضا - بقوله - تعالى - ) : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية ، فجعل الأصل الإباحة ، والتحريم مستثنى .

                        وبقوله - سبحانه : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه .

                        [ ص: 809 ] وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم ( على السائل ) من أجل مسألته .

                        وبما أخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، عن سلمان الفارسي قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن السمن ، والخبز ، والفراء ، قال : الحلال ما أحله الله في كتابه ، والحرام ما حرمه الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه .

                        واحتجوا أيضا بأنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ، ولا على المنتفع ، فوجب أن لا يمتنع ، كالاستضاءة بضوء السراج ، والاستظلال بظل الجدار .

                        ولا يرد على هذا الدليل ما قيل : من أنه يقتضي إباحة كل المحرمات ؛ لأن فاعلها ينتفع بها ، ولا ضرر فيها على المالك ، ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها .

                        ووجه عدم وروده أنه قد وقع الاحتراز عنه بقوله : ولا على المنتفع ، ولا انتفاع بالمحرمات ، وبترك الواجبات لضرره ضررا ظاهرا ؛ لأن الله - سبحانه - قد بين حكمها ، [ ص: 810 ] وليس النزاع في ذلك ، إنما النزاع فيما لم يبين حكمه ببيان يخصه أو يخص نوعه .

                        واحتجوا أيضا بأنه - سبحانه - إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمة ، أو لغير حكمة ، والثاني باطل ؛ لقوله - تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا والعبث لا يجوز على الحكمة ، فثبت أنها مخلوقة لحكمة ، ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون ؛ لعود النفع إليه - سبحانه - أو إلينا ، والأول باطل ؛ لاستحالة الانتفاع عليه - عز وجل ، فثبت أنه إنما خلقها ؛ لينتفع بها المحتاجون إليها ، وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان ، فإن منع منه فإنما هو يمنع منه ؛ لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه ، وذلك بأن ينهى الله عنه ، فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة .

                        وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم وهذا خارج عن محل النزاع ، فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه ، أو حكم نوعه ، وأما ما قد فصل وبين حكمه ، فهو كما بينه بلا خلاف .

                        واحتجوا أيضا بقوله - تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام قالوا : فأخبر الله - سبحانه - أن التحريم والتحليل ليس إلينا ، وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه .

                        ويجاب عن هذا : بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم ، بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله ، كما تقدم ، فلا ترد هذه الآية عليهم ، ولا تعلق لها بمحل النزاع .

                        واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات الحديث .

                        قال : فأرشد - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى ترك ما بين الحلال والحرام ، ولم يجعل [ ص: 811 ] الأصل فيه أحدهما .

                        ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع .

                        فإن استدل به القائلون بالوقف فيجاب عنه : بأن الله - سبحانه - قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الأدلة ، وليس المراد بقوله : " وبينهما أمور مشتبهات " إلا ما لم يدل الدليل على أنه حلال طلق ، أو حرام واضح ، بل تنازعه أمران ، أحدهما يدل على إلحاقه بالحلال ، والآخر يدل على إلحاقه بالحرام ، كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة . أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه ، كما تقدم في حديث سلمان وقد أوضحنا الكلام على هذا الحديث في رسالة مستقلة ، فليرجع إليها .

                        واستدلوا أيضا بالحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام الحديث .

                        ويجاب عنه : بأنه خارج عن محل النزاع ؛ لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة لمالكيها ، ولا خلاف في تحريمها على الغير ، وإنما النزاع في الأعيان التي خلقها الله لعباده ، ولم تصر في ملك أحد منهم ، وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله - عز وجل - على تحريمها ، إلا بدليل عام ولا خاص ، وكالنباتات التي تنبتها الأرض ، ما لم يدل دليل على تحريمها ، ولا كانت مما يضر مستعمله بل مما ينفعه .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية