الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب ولاء الموالاة ( قال ) إبراهيم رضي الله عنه إذا أسلم الرجل على يد الرجل ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه وله أن يتحول بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه فإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول عنه إلى غيره وبهذا نأخذ والإسلام على يديه ليس بشرط لعقد الموالاة وإنما ذكره على سبيل العادة وسواء أسلم على يده أو أتاه مسلما وعاقده عقد الولاء كان مولى له وكان الشعبي يقول لا ولاء إلا لذي نعمة يعني العتاق وبه يأخذ الشافعي رحمه الله تعالى وإنما أخذنا فيه بقول إبراهيم رضي الله تعالى عنه لحديث أبي الأشعث حيث سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل أسلم على يديه ووالاه فمات وترك مالا فقال عمر رضي الله عنه ميراثه لك فإن أبيت فلبيت المال ولحديث زيادة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن رجلا من أهل الأرض أتاه بواليه فأبى علي رضي الله عنه ذلك فأتى ابن عباس رضي الله عنه فوالاه ولحديث مسروق رضي الله عنه أن رجلا من أهل الأرض والى ابن عم له وأسلم على يديه فمات ، وترك مالا فسأل ابن مسعود رضي الله عنه عن ميراثه فقال هو لمولاه وأيد أقاويل الصحابة حديث تميم الداري رضي الله عنه قال { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يسلم على يدي الرجل ، ما السنة فيه ؟ قال : هو أولى الناس بمحياه ومماته } ، وأيد هذا قوله تعالى { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } .

وقد بينا في أول الكتاب فإن أسلم على يديه ولم يواله ، لم يعقل عنه ، ولم [ ص: 92 ] يرثه إلا على قول الروافض فإنهم يقولون بالإسلام على يديه يكون مولى له ; لأنه أحياه بإخراجه إياه من ظلمة الكفر ; لأن الكفار كالموتى في حق المسلمين . فهو كما لو أحياه بالعتق ، وعلى هذا يزعمون أن الناس موالي علي وأولاده رضي الله عنهم فإن السيف كان بيده ، وأكثر الناس أسلموا من هيبته ، وهذا باطل عندنا ، فإن الله تعالى هو الذي أحياه بالإسلام بأن هداه لذلك ، وبيان ذلك في قوله تعالى { أومن كان ميتا فأحييناه } أي كافرا فرزقناه الهدى . وقال تعالى { : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } يعني بالإسلام فدل أن المنعم بالإسلام هو الله تعالى ، فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى الذي عرض عليه الإسلام ; لأنه بما صنع نائب عن الشرع مباشر ما يحق عليه لله تعالى ، فهو في حقه كغيره من المسلمين لا يكون مولى له ما لم يعاقده عقد الولاء ، ثم من أين لهم هذا التحكم أن أكثر الناس أسلموا من هيبة علي وهو كان صغيرا حين أسلم الكبار من الصحابة ؟ وأبو بكر وعمر كانا مقدمين عليه رضي الله عنهم في أمور القتال وغير القتال ، لا يخفى ذلك على من يتأمل في أحوالهم ولكن الروافض قوم بهت لا يحترزون عن الكذب ، بل بناء مذهبهم على الكذب ، فإن أسلم رجل على يدي رجل ووالى رجلان آخر ، فهو مولى هذا الذي والاه يرثه ويعقل عنه ; لأنه بالإسلام على يدي الأول لم يصر مولى له ولو كان مولى بأن عاقده كان له أن يتحول عنه ، وقد فعل ذلك حين عاقد مع الثاني فكيف إذا لم يكن مولى للأول ؟ فإن مات عن عمة أو خالة أو غيرهما من القرابة كان ميراثه لقرابته دون المولى ; لما بينا أنه لا يملك إبطال حق المستحق عن ماله بعقده ، كما لو أوصى بجميع ماله وله وارث وذوو الأرحام من جملة الورثة .

قال : { الخال وارث من لا وارث له } فلا يملك إبطال حقه بعقده . توضيحه أن سبب ذي الرحم وهو القرابة أقوى ; لأنه متفق على ثبوته شرعا ، وإن اختلفوا في الإرث به ، وعقد الولاء مختلف في ثبوته شرعا فلا يظهر الضعيف في مقابلة القوي ، ( فإن قيل ) : ينبغي أن يكون للمولى الثلث لأنه خالص حقه يملك وضعه فيمن شاء . ( قلنا ) : نعم ولكنه بعقد الولاء ما وضع شيئا من ماله فيه ، وإنما جعله وارثا منه وفي سبب الوراثة ذو القرابة يترجح فلا يظهر استحقاق المولى معه بهذا السبب في شيء من المال ، بخلاف الوصية بالثلث فإنه خلافة في المال مقصودا . توضيحه : أن التملك بالوصية غير التملك بالإرث ألا ترى أن الموصى له لا يرد بالعيب ، ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي بخلاف الوارث فلا يمكن جعل الثلث له ، لا بطريق الوصية ; لأنه ما أوجب له ذلك ولا بطريق الإرث [ ص: 93 ] لترجح استحقاق القريب عليه ، وإذا والى رجل رجلا ثم ولد له ابن من امرأة قد والت رجلا ، فولاء الولد لموالي الأب ; لأن الأب هو الأصل في النسب والولاء ، فإذا كان للولد في جانب الأب ولاء هو مساو للولاء الذي في جانب الأم يترجح جانبه ، كما في ولاء العتق ( قال ) وكذلك إن كانت والت وهي حبلى به ، وهذا بخلاف ولاء العتاقة فإنها إذا أعتقت وهي حبلى به ، وكان ولاء الولد لموالي أمه ; لأن الولد هناك يكون مقصودا بالسبب وهو العتق ، فإن الجنين محل للعتق مقصودا ، وهنا الجنين لم يصر مقصودا بالولاء ; لأنه ما دام في البطن فهو ليس بمحل لعقد الموالاة مقصودا ; لأن تمام هذا العقد بالإيجاب والقبول وليس لأحد عليه ولاية القبول ، وإذا كان تبعا فاتباعه الأب أولى كما بينا .

وكذلك لو كان لهما أولاد صغار حين والى الأب إنسانا ، وقد والت الأم قبل ذلك آخر ، فالأولاد موال لموالي الأب ; لأنه ليس للأم ولاية عقد الولاء على الأولاد في قولهما ، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لها ذلك عند عدم الأب ، أما مع وجود الأب فلا ، ولئن كان لها ذلك مع وجود الأب فهي ما عقدت عليهم إنما عقدت على نفسها خاصة ، ولئن جعل عقدها على نفسها عقدا على الأولاد فعقد الأب كذلك على نفسه عقد على الأولاد ، وولاء الموالاة يقبل التحول ، فيجعل الأب محولا لولائهم إلى من والاه ، وذلك صحيح منه ، ولهذا كان الأولاد موال لموالي الأب فإن جنى الأب جناية فعقل الذي والاه عنه فليس لولده أن يتحول عنه إلى غيره بعد الكبر ; لأن ولاء الأب تأكد بعقد الجناية ، ويتأكد التبع بتأكد الأصل وكما ليس للأب أن يتحول عنه إلى غيره بعدما عقل جنايته ، فكذلك ليس لولده ذلك إذا كبر ، وكذلك إذا كان هذا الولد جنى ، أو جنى بعض إخوته فعقل عنه مولاه ، فليس له أن يتحول عنه ; لأن الأب مع أولاده كالشخص الواحد في حكم الولاء ، فبعقل جناية أحدهم بتأكد العقد في حقهم جميعا بخلاف ما قبل عقل الجناية عن أحد منهم ; لأن هناك ولاؤهم لم يتأكد فإن تأكد العقد بحصول المقصود به ، وإنما لم يجعل هذا العقد متأكدا قبل حصول المقصود به ; لأنه ليس فيه معنى المعاوضة ، بل أحدهما متبرع على صاحبه بالقيام على نصرته وعقل جنايته ، والآخر متبرع على صاحبه في جعله إياه خليفته في ماله بعد وفاته .

وعقد التبرع لا يلزم بنفسه ما لم يتصل به القبض ، ولو كان هذا معاوضة باعتبار المعنى لم يخرج من أن يكون متبرعا صورة ، فيكون كالهبة بشرط العوض لا يتم بنفسه ما لم يتصل به القبض ، فإن كان له ابن كبير [ ص: 94 ] حين والى الأب فأسلم الابن على يدي رجل آخر ووالاه ، فولاؤه له ; لأنه مقصود باكتساب سبب الولاء هنا بمنزلة اكتساب أبيه ، فهو كما لو أعتق الأب إنسان ، والابن إنسان آخر ، فيكون كل واحد منهما مولى لمن أعتقه ، وإن أسلم الابن ولم يوال أحدا فولاؤه موقوف . نعني به أنه لا يكون مولى لموالي الأب ، بخلاف المولود في ولائه والصغير عند عقد الأب ; لأن عقد الولاء ترتب على الإسلام عادة ، والابن الكبير لا يتبع أباه في الإسلام بخلاف الصغير والمولود بعد الإسلام ، فكذلك في حكم الولاء الذي ترتب عليه ; وهذا لأن الصغير ليس بأصل في اكتساب سبب الولاء ، ألا ترى أنه لا يصح هذا العقد منه بدون إذن وليه فيجعل فيه تبعا لأبيه ، أما الكبير أصل في اكتساب سبب هذا الولاء حتى يصح منه عقد الولاء بدون إذن أبيه ، وبين كونه أصلا في الحكم وتبعا فيه منافاة ، ولهذا لا يصير مولى للذي والاه أبوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية