الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( 28 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( واصبر ) يا محمد ( نفسك مع ) أصحابك ( الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها ( يريدون ) بفعلهم ذلك ( وجهه ) لا يريدون عرضا من عرض الدنيا .

وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله ( يدعون ربهم بالغداة والعشي ) في سورة الأنعام ، والصواب من القول في ذلك عندنا ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، والقراء على قراءة ذلك ( بالغداة والعشي ) ، وقد ذكر عن عبد الله بن عامر وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه ( ( بالغدوة والعشي ) ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة ، لأن غدوة معرفة ، ولا ألف ولا لام فيها ، وإنما يعرف بالألف واللام ما لم يكن معرفة ، فأما المعارف فلا تعرف بهما ، وبعد ، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء ، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها ، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة ، وإنما تقول العرب : أتيتك غداة الجمعة ، ولا تقول : أتيتك غدوة الجمعة ، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القراء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك ، وللعلة التي بينا من جهة العربية . [ ص: 6 ]

وقوله : ( ولا تعد عيناك عنهم ) يقول جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار ، ولا تجاوزهم إليه ، وأصله من قولهم : عدوت ذلك ، فأنا أعدوه : إذا جاوزته .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : ( ولا تعد عيناك عنهم ) قال : لا تجاوزهم إلى غيرهم .

حدثني علي ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ولا تعد عيناك عنهم ) يقول : لا تتعدهم إلى غيرهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( واصبر نفسك ) . . . الآية ، قال : قال القوم للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا ، فجانبهم يا محمد ، وجالس أشراف العرب ، فنزل القرآن ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ) ولا تحقرهم ، قال : قد أمروني بذلك ، قال : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) .

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ، أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) فخرج يلتمس ، فوجد قوما يذكرون الله ، منهم ثائر الرأس ، وجاف الجلد ، وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم ، فقال : "الحمد لله الذي جعل لي في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معه " ورفعت العينان بالفعل ، وهو لا تعد .

وقوله : ( تريد زينة الحياة الدنيا ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تعد عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين ، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 7 ] أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك ، وقال بعضهم : بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام ، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال ، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا ، قالوا : فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عليه : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ثم كان يقوم إذا أراد القيام ، ويتركهم قعودا ، فأنزل الله عليه ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) الآية ( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) يريد زينة الحياة الدنيا : مجالسة أولئك العظماء الأشراف . وقد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام .

حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود ، عن خباب في قصة ذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر ( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) قال : تجالس الأشراف .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرت أن عيينة بن حصن قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم : لقد آذاني ريح سلمان الفارسي ، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه ، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه ، فنزلت الآية .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه " .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( تريد زينة الحياة الدنيا ) قال : تريد أشراف الدنيا .

حدثنا صالح بن مسمار ، قال : ثنا الوليد بن عبد الملك ، قال : سليمان بن عطاء ، عن مسلمة بن عبد الله الجهني ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم ، فقالوا : يا نبي الله ، إنك لو جلست في صدر المسجد ، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم [ ص: 8 ] يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف ، ولم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك ، وأخذنا عنك ، فأنزل الله : ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا ) ، حتى بلغ ( إنا أعتدنا للظالمين نارا ) يتهددهم بالنار ، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله ، فقال : "الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات " .

وقوله : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي عنك ، عن ذكرنا ، بالكفر وغلبة الشقاء عليه ، واتبع هواه ، وترك اتباع أمر الله ونهيه ، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه ، وهم فيما ذكر : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم .

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) قال : عيينة ، والأقرع .

وأما قوله : ( وكان أمره فرطا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وكان أمره ضياعا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وكان أمره فرطا ) قال ابن عمرو في حديثه قال : ضائعا . وقال الحارث في حديثه : ضياعا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ضياعا .

وقال آخرون : بل معناه : وكان أمره ندما . [ ص: 9 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا بدل بن المحبر ، قال : ثنا عباد بن راشد ، عن داود ( فرطا ) قال : ندامة .

وقال آخرون : بل معناه : هلاكا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسين بن عمرو ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب ( وكان أمره فرطا ) قال : هلاكا .

وقال آخرون : بل معناه : خلافا للحق .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( وكان أمره فرطا ) قال : مخالفا للحق ، ذلك الفرط .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : ضياعا وهلاكا ، من قولهم : أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا : إذا أسرف فيه وتجاوز قدره ، وكذلك قوله ( وكان أمره فرطا ) معناه : وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر ، واحتقار أهل الإيمان ، سرفا قد تجاوز حده ، فضيع بذلك الحق وهلك .

وقد : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، قال : قيل له : كيف قرأ عاصم؟ فقال ( وكان أمره فرطا ) قال أبو كريب : قال أبو بكر : كان عيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية