الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ( 32 ) كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا ( 33 ) [ ص: 19 ] وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ( 34 ) )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله ، الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ( مثلا ) مثل ( رجلين جعلنا لأحدهما جنتين ) أي جعلنا له بستانين من كروم ( وحففناهما بنخل ) يقول : وأطفنا هذين البستانين بنخل . وقوله : ( وجعلنا بينهما زرعا ) يقول : وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا ، وقوله : ( كلتا الجنتين آتت أكلها ) يقول : كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع . وقال : كلتا الجنتين ، ثم قال : آتت ، فوحد الخبر ، لأن كلتا لا يفرد واحدتها ، وأصله كل ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا ، ويذهبون بها وهي مفردة إلى التثنية ، قال بعض الرجاز في ذلك :


في كلت رجليها سلامى واحده كلتاهما مقرونة بزائده



يريد بكلت : كلتا ، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلى معرفة ، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد ، وقوله : ( ولم تظلم منه شيئا ) يقول : ولم تنقص من الأكل شيئا ، بل آتت ذلك تاما كاملا ومنه قولهم : ظلم فلان فلانا حقه : إذا بخسه ونقصه ، كما قال الشاعر :


تظلمني مالي كذا ولوى يدي     لوى يده الله الذي هو غالبه



وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . [ ص: 20 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ولم تظلم منه شيئا ) : أي لم تنقص ، منه شيئا .

وقوله : ( وفجرنا خلالهما نهرا ) يقول تعالى ذكره :

وسيلنا خلال هذين البستانين نهرا ، يعني بينهما وبين أشجارهما نهرا . وقيل : ( وفجرنا ) فثقل الجيم منه ، لأن التفجير في النهر كله ، وذلك أنه يميد ماء فيسيل بعضه بعضا .

وقوله : ( وكان له ثمر ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق : "وكان له ثمر" بضم الثاء والميم . واختلف قارئو ذلك كذلك ، فقال بعضهم : كان له ذهب وفضة ، وقالوا : ذلك هو الثمر ، لأنها أموال مثمرة ، يعني مكثرة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( وكان له ثمر ) قال : ذهب وفضة ، وفي قول الله عز وجل : ( بثمره ) قال : هي أيضا ذهب وفضة .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : [ ص: 21 ] ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله ( ثمر ) قال : ذهب وفضة . قال : وقوله : ( وأحيط بثمره ) هي هي أيضا .

وقال آخرون : بل عني به : المال الكثير من صنوف الأموال .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن هارون ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : قرأها ابن عباس : "وكان له ثمر" بالضم ، وقال : يعني أنواع المال .

حدثنا علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : "وكان له ثمر" يقول : مال .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : "وكان له ثمر" يقول : من كل المال .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وأحيط بثمره ) قال : الثمر من المال كله يعني الثمر ، وغيره من المال كله .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : "الثمر" المال كله ، قال : وكل مال إذا اجتمع فهو ثمر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله .

وقال آخرون : بل عني به الأصل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : "وكان له ثمر" الثمر الأصل ، قال " وأحيط بثمره" قال : بأصله ، وكأن الذين وجهوا معناها إلى أنها أنواع من المال ، أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر ، كما يجمع الكتاب كتبا ، والحمار حمرا ، وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء في هذه القراءة "ثمر" بضم الثاء وسكون الميم ، وهو يريد الضم فيها ، غير أنه سكنها طلب التخفيف ، وقد يحتمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة ، كما تجمع الخشبة خشبا . وقرأ ذلك بعض المدنيين : ( وكان له ثمر ) بفتح الثاء والميم ، بمعنى جمع الثمرة ، كما تجمع الخشبة خشبا ، والقصبة قصبا .

وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ " وكان له ثمر " بضم الثاء والميم لإجماع الحجة من القراء عليه وإن كانت جمع ثمار ، كما الكتب جمع كتاب .

ومعنى الكلام : ( وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ) منهما " ثمر " بمعنى من جنتيه أنواع من الثمار وقد بين ذلك لمن وفق لفهمه ، قوله : [ ص: 22 ] ( جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ) ثم قال : وكان له من هذه الكروم والنخل والزرع ثمر .

وقوله : ( فقال لصاحبه وهو يحاوره ) يقول عز وجل : فقال هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب ، لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه :

( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) يقول : وأعز عشيرة ورهطا ، كما قال عيينة والأقرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن سادات العرب ، وأرباب الأموال ، فنح عنا سلمان وخبابا وصهيبا ، احتقارا لهم ، وتكبرا عليهم .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) وتلك والله أمنية الفاجر : كثرة المال ، وعزة النفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية