الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 161 ] الثالث : قال أبو شامة - أيضا - : فإن قيل : ما السر في نزوله منجما ؟ وهلا أنزل كسائر الكتب جملة ؟ .

قلنا : هذا سؤال قد تولى الله جوابه ، فقال - تعالى - : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل ، فأجابهم - تعالى - بقوله : كذلك أي : أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤادك [ الفرقان : 32 ] أي : لنقوي به قلبك ; فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب ، وأشد عناية بالمرسل إليه ، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه ، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز ، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ; ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل .

وقيل : معنى لنثبت به فؤادك أي : لحفظه ، فإنه - عليه السلام - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ففرق عليه ليثبت عنده حفظه ، بخلاف غيره من الأنبياء ، فإنه كان كاتبا قارئا ، فيمكنه حفظ الجميع .

وقال ابن فورك : قيل : أنزلت التوراة جملة ; لأنها نزلت على نبي يكتب ويقرأ وهو موسى . وأنزل الله القرآن مفرقا لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي .

وقال غيره : إنما لم ينزل جملة واحدة ; لأن منه الناسخ والمنسوخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا ، ومنه ما هو جواب لسؤال ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فعل فعل ، وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس : ونزله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم ، وفسر به قوله : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق [ الفرقان : 33 ] أخرجه عنه ابن أبي حاتم .

فالحاصل أن الآية تضمنت حكمتين لإنزاله مفرقا .

تذنيب : ما تقدم في كلام هؤلاء من أن سائر الكتب أنزلت جملة - هو مشهور في كلام [ ص: 162 ] العلماء وعلى ألسنتهم ، حتى كاد أن يكون إجماعا ، وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك ، وقال : إنه لا دليل عليه ، بل الصواب : أنها نزلت مفرقة كالقرآن .

وأقول : الصواب الأول ، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان السابقة .

أخرج ابن أبي حاتم ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قالت اليهود : يا أبا القاسم ، لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى ، فنزلت .

وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ : " قال المشركون " . وأخرج نحوه عن قتادة والسدي .

فإن قلت : ليس في القرآن التصريح بذلك ، وإنما هو على تقدير ثبوته ، قول الكفار ؟ .

قلت : سكوته - تعالى - عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته دليل على صحته ، ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول : إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة ، كما أجاب بمثل ذلك قولهم : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ الفرقان : 7 ] ، فقال وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ الفرقان : 20 ] وقولهم أبعث الله بشرا رسولا [ الإسراء : 94 ] ، فقال وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم [ يوسف : 109 ] وقولهم : كيف يكون رسولا ولا هم له إلا النساء ؟ فقال ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ الرعد : 38 ] . إلى غير ذلك .

ومن الأدلة على ذلك - أيضا - قوله تعالى : في إنزال التوراة على موسى يوم الصعقة : فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة [ الأعراف : 144 - 145 ] وألقى الألواح [ الأعراف : 150 ] ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة [ الأعراف : 154 ] وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة [ الأعراف : 171 ] ، فهذه الآيات كلها دالة على إتيانه التوراة جملة .

وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد ، فيها تبيان لكل شيء وموعظة ، فلما جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمى بالتوراة من يده فتحطمت ، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي منها سبع .

وأخرج من طريق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، رفعه قال : الألواح التي [ ص: 163 ] أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة ، كان طول اللوح اثني عشر ذراعا .

وأخرج النسائي وغيره ، عن ابن عباس في حديث الفتون - قال : أخذ موسى الألواح بعدما سكن عنه الغضب فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم ، وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأقروا بها .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ثابت بن الحجاج ، قال : جاءتهم التوراة جملة واحدة ، فكبر عليهم ، فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوها عند ذلك .

فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة .

ويؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرقا ، فإنه أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج ، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة ، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس ، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي .

ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري ، عن عائشة ، قالت : إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء : ( لا تشربوا الخمر ) لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ولو نزل ( لا تزنوا ) لقالوا : لا ندع الزنا أبدا .

ثم رأيت هذه الحكمة مصرحا بها في " الناسخ والمنسوخ " لمكي .

التالي السابق


الخدمات العلمية