الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ اجتماع الصحة والحسن ] ( و ) الثانية ( استشكل الحسن ) الواقع جمعه في كلام الترمذي كثيرا وغيره كالبخاري ( مع الصحة في متن ) واحد ، كهذا حديث حسن صحيح ; لما تقرر من أن الحسن قاصر عن الصحيح ، ففي الجمع بينهما في حديث واحد جمع بين نفي ذلك القصور وإثباته ، ويقال في الجواب : لا يخلو إما أن يكون هذا القائل أراد الحسن الاصطلاحي أو اللغوي .

( فإن لفظا يرد ) أي : فإن يرد القائل به اللفظ ; لكونه مما فيه بشرى للمكلف ، وتسهيل عليه ، وتيسير له ، وغير ذلك مما تميل إليه النفس ، ولا يأباه القلب ، وهو اللغوي ، فهو كما قال ابن الصلاح غير مستنكر الإرادة ، وبه يزول الإشكال .

ولكن قد تعقبه ابن دقيق العيد بأنه إن أريد حسن اللفظ فقط ، ( فقل صف به ) [ ص: 122 ] أي : بالحسن ( الضعيف ) ولو بلغ رتبة الوضع ، يعني كما هو قصد الواضعين غالبا ، وذلك لا يقوله أحد من أهل الحديث إذا جروا على اصطلاحهم ، بل صرح البلقيني بأنه لا يحل إطلاقه في الموضوع ، يعني ولو خرجوا عن اصطلاحهم ; لأنه ربما أوقع في لبس ، وأيضا فحسن لفظه معارض بقبح الوضع أو الضعف .

لكن أجاب بمنع وروده بعد الحكم عليه بالصحة ، الذي هو فرض المسألة ، وهو حسن ، ولذلك تبعه شيخنا وغيره فيه .

على أنه قد يدعي أن تقييد الترمذي بالإسناد ; حيث قال : إنما أردنا به بحسن إسناده - يدفع إرادة حسن اللفظ ، ولكن لا يأتي هذا إذا مشينا على أن تعريفه إنما هو لما يقول فيه ، حسن فقط .

وأما قول ابن سيد الناس في دفع كلام ابن الصلاح : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كله حسن الألفاظ ، بليغ المعاني ، يعني فلم يخص بالوصف بذلك بعضه دون بعض ، فهو كذلك جزما ، لكن فيه ما هو في الترهيب ونحوه ; كـ من نوقش الحساب عذب وما هو في الترغيب والفضائل ; كالزهد والرقائق ونحو ذلك ، ولا مانع من النص في الثاني ونحوه على الحسن اللغوي .

ورد بأن المطابق للواقع في الترمذي غير محصور فيه ، والانفصال عنه - كما قال البلقيني - أن الوصف بذلك ، ولو كان بالترهيب باعتبار ما فيه من الوعيد والزجر بالأساليب البديعة .

وحينئذ فالإشكال باق ، ( أو ) إن ( يرد ما يختلف سنده ) ; بأن يكون الحديث [ ص: 123 ] بإسنادين : أحدهما حسن ، والآخر صحيح ، فيستقيم الجمع بين الوصفين باعتبار تعدد الإسنادين . وهذا الجواب لابن الصلاح أيضا .

وقد تعقبه ابن دقيق العيد أيضا بأنه وإن أمكن فيما روي من غير وجه لاختلاف مخرجه ( فكيف ) يمكن ( إن ) حديث ( فرد وصف ) بذلك ؟ ! كما يقع التصريح به في كلام الترمذي نفسه ; حيث يقول في غير حديث : إنه حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، أو لا نعرفه إلا من حديث فلان .

وتبعه في رد هذين الجوابين تلميذه ابن سيد الناس ، قال : وأيضا فلو أراد أي : الجامع بين الوصفين واحدا منهما ، لحسن أن يأتي بواو العطف المشتركة ، فيقول : حسن وصحيح ; لتكون أوضح في الجمع بين الطريقين ، أو السند والمتن .

( ولأبي الفتح ) التقي محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي ثم القاهري المالكي ثم الشافعي ، عرف بابن دقيق العيد ، وهو الحافظ العلامة الشهير أعلم أهل عصره بفقه الحديث وعلله ، وقوة الاستنباط منه .

ومعرفة طرق الاجتهاد ، مع تقدمه في الزهد والورع والولاية ; بحيث كان يتكلم على الخواطر ، وناهيك بأنه هو القائل : ما تكلمت بكلمة ، ولا فعلت فعلا ، إلا أعددت لذلك جوابا بين يدي الله تعالى .

ذو التصانيف الكثيرة في الفنون ، وأحد من ولي قضاء مصر ، وفاق في القيام بالحق ، والصلابة في الحكم ، وعدم المحاباة ، بل كان إذا تخاصم إليه أحد من أهل الدولة ، بالغ في التشدد والتثبت ، فإن سمع ما يكرهه عزل نفسه ، فعل ذلك مرارا وهو يعاد .

وكان يقول : ضابط ما يطلب مني مما يجوز شرعا لا أبخل به . واستمر في القضاء حتى مات في صفر سنة اثنتين وسبعمائة ( 702 هـ ) ، ودفن بالقرافة ، ومولده في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة ( 625 هـ ) ( في كتابه الاقتراح ) في علوم الحديث الذي نظمه الناظم وشرحته ، بعد ردهما - كما [ ص: 124 ] تقدم - في الجواب عن الإشكال ما حاصله ( أن انفراد الحسن ) في سند أو متن ، الحسن فيه ( ذو اصطلاح ) أي : الاصطلاحي المشترط فيه القصور عن الصحة .

( وإن يكن ) الحديث ( صح ) أي : وصف مع الحسن بالصحة ( فليس يلتبس ) حينئذ الجمع بين الوصفين ، بل الحسن حاصل لا محالة تبعا للصحة .

وشرح هذا وبيانه : أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواية ، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض ; كالتيقظ والحفظ والإتقان مثلا ، ووجود الدرجة الدنيا كالصدق مثلا وعدم التهمة بالكذب - لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه ; كالحفظ والإتقان ، فإذا وجدت الدرجة العليا ، لم يناف ذلك وجود الدنيا ; كالحفظ مع الصدق .

فيصح أن يقال في هذا : إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا ، وهي الصدق مثلا ، صحيح باعتبار الصفة العليا ، وهي الحفظ والإتقان ، قال : وعلى هذا ( كل صحيح حسن لا ينعكس ) أي : وليس كل حسن صحيحا ، ويتأيد الشق الأول بقولهم : هذا حديث حسن ، في الأحاديث الصحيحة ، كما هو موجود في كلام المتقدمين .

وسبقه ابن المواق ، فقال : لم يخص الترمذي - يعني في تعريفه السابق - الحسن بصفة تميزه عن الصحيح ; فلا يكون صحيحا إلا هو غير شاذ ، ولا يكون صحيحا حتى تكون رواته غير متهمين ، بل ثقات .

قال : فظهر من هذا أن الحسن عنده صفة لا تخص هذا القسم ، بل قد يشركه فيها الصحيح ، فكل صحيح عنده حسن ولا ينعكس ، ويشهد لهذا أنه لا يكاد يقول في حديث يصححه إلا : حسن صحيح .

( و ) لكن قد ( أوردوا ) أي : ابن سيد الناس ومن وافقه على ذلك - كما أشير إليه أول القسم - ( ما صح من ) أحاديث ( أفراد ) ، أي : ليس لها إلا إسناد واحد ; لعدم اشتراط التعدد في الصحيح ( حيث اشترطنا ) كالترمذي في الحسن ( غير ما إسناد ) أي : غير إسناد ، فانتفى حينئذ - كما [ ص: 125 ] قال ابن سيد الناس - أن يكون كل صحيح حسنا . قال : نعم قوله : وليس كل حسن صحيحا ، صحيح .

قال شيخنا : وهو تعقب وارد ، ورد واضح . انتهى .

لكن قد سلف قول ابن سيد الناس نفسه : أن الترمذي عرف نوعا خاصا من الحسن ; يعني : فما عداه لا يشترط فيه التعدد ، كالصحيح .

وحينئذ فالعموم الذي أشار إليه ابن دقيق العيد بالنسبة إليه مطلق ، وبالحمل عليه يستقيم كلامه ، وأما إذا كان وجيها فالإشكال باق .

هذا مع أن شيخنا صرح بأن جواب ابن دقيق العيد أقوى الأجوبة عن هذا الإشكال ، ولكن التحقيق ما قاله أيضا - كما سبق بيانه عند تعريف الخطابي - أنهما متباينان ، ولذا مشى في توضيح النخبة على ثاني الأجوبة ، إذا لم يحصل التفرد .

وذكر آخر عند التفرد أصله لابن سيد الناس ، وعبارته : ومحصل الجواب في الجمع بينهما أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين ، فيقال فيه : " حسن " باعتبار وصفه عند قوم ، " صحيح " باعتبار وصفه عند قوم ، وغاية ما فيه أنه حذف حرف التردد ; لأن حقه أن يقول : حسن أو صحيح ، وهذا كما حذف حرف العطف ، يعني من الآخر .

وعلى هذا فما قيل فيه : حسن صحيح ، دون ما قيل فيه : " صحيح " ; لأن الجزم أقوى من التردد ، وهذا حيث التفرد ، وإلا فإطلاق الوصفين معا على الحديث يكون باعتبار إسنادين : أحدهما صحيح ، والآخر حسن .

وعلى هذا فما قيل فيه : حسن صحيح فوق ما قيل فيه : " صحيح " فقط ، إذا كان فردا ; لأن كثرة الطرق تقويه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية