الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
112 حديث ثالث لإسماعيل بن أبي حكيم مرسل

مالك ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن عطاء بن يسار أنه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا ، فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الماء .

التالي السابق


عطاء بن يسار هو أخو سليمان بن يسار ، قال مصعب الزبيري : كانوا أربعة إخوة ; عطاء ، وسليمان ، وعبد الله ، وعبد الملك ، وهم موالي ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتبتهم ، وكلهم أخذ عنها العلم .

[ ص: 174 ] قال أبو عمر : سليمان أفقههم ، وعطاء أكثرهم حديثا ، وعبد الله وعبد الملك قليلا الحديث ، وكلهم ثقة رضى ، وكان عطاء بن يسار من الفضلاء العباد العلماء ، وكان صاحب قصص ، ذكر علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن هشام بن عروة ، قال : ما رأيت قاصا أفضل من عطاء بن يسار ، سمع عطاء بن يسار من أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عمر ، وقيل سمع ابن مسعود ، وفي ذلك عندي نظر ، وتوفي عطاء بن يسار سنة سبع وتسعين فيما ذكر الهيثم بن عدي ، وأما الواقدي فقال : توفي عطاء بن يسار سنة ثلاث ومائة ، وهو ابن أربع وثمانين سنة ، وهذا عندنا أصح من قول الهيثم ، وكان يكنى أبا يسار ، وقيل أبو عبد الله ، وقيل أبو محمد ، فالله أعلم .

وهذا حديث منقطع ، وقد روي متصلا مسندا من حديث أبي هريرة ، وحديث أبي بكرة ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، حدثنا الخضر بن داود ، حدثنا أبو بكر - يعني الأثرم - ، قال : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل رحمه الله - عن حديث أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار أن امكثوا ، فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الغسل فصلى بهم ، ما وجهه ؟ قال : وجهه أنه ذهب فاغتسل ، قيل له كان جنبا ؟ قال : نعم ، ثم قال : يرويه بعض الناس أنه كبر وبعضهم يقول لم يكبر ، قيل له : فلو فعل هذا إنسان اليوم هكذا أكنت تذهب إليه ؟ قال : نعم .

[ ص: 175 ] قال أبو عمر : من طرق حديث أبي هريرة في هذا الحديث ما ذكره الشافعي ، قال : أخبرنا الثقة ، عن أسامة بن زيد - يعني الليثي - ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه - يعني مثل معنى حديث مالك هذا عن إسماعيل بن أبي حكيم - قال الشافعي : وأخبرنا الثقة ، عن حماد بن سلمة ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، عن النبي عليه السلام مثله ، قال : وأخبرنا الثقة ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

قال أبو عمر : ذكر وكيع في مصنفه حديث أسامة بن زيد هذا ، بإسناده مثله ، ورواه أيوب ، وهشام ، وابن عون ، عن ابن سيرين مثله ، وهذا الحديث محفوظ من حديث الزهري مسندا من رواية الثقات ، منه حدثناه محمد بن عبد الله بن حكم ، قال أخبرنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي ، قال : أخبرنا هشام بن عمار ، قال : أخبرنا عبد الحميد [ ص: 176 ] بن حبيب ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثنا الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أخبره ، قال : أقيمت الصلاة ، فصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقبل يمشي حتى إذا قام في مصلاه ذكر أنه لم يغتسل ، فقال للناس : مكانكم ، ثم رجع إلى بيته ، فاغتسل ، ثم خرج حتى قام في مصلاه فكبر ورأسه ينطف .

وذكره أبو داود من رواية معمر ، ويونس بن يزيد ، والزبيدي ، والأوزاعي ، كلهم عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مثله سواء بمعناه ، وذكره البخاري من رواية يونس ، عن الزهري مثله ، ولم يذكر في هذا الحديث أنه كبر قبل أن يذكر ، وإنما فيه أنه لما قام في مصلاه ذكر أنه لم يغتسل ، فاحتمل أن يكون ذكر ذلك قبل أن يكبر ، فأمرهم أن ينتظروه ، فلو صح هذا لم يكن في هذا الحديث معنى يشكل حينئذ ; لأن انتظارهم لو كان وهم في غير صلاة لم يكن في ذلك شيء يحتاج إليه في هذا الباب ، واحتمل أن يكون قوله : فلما قام في مصلاه ، أي قام في صلاته ، فلما احتمل الوجهين كانت رواية من روى أنه كان كبر يفسر ما أبهم من لم يذكر ذلك ; لأن الثقاة من رواة مالك والشافعي قالوا فيه أنه كبر ثم أشار إليهم أن امكثوا ، وقد ظن بعض شيوخنا أن في إشارته إليهم أن امكثوا دليلا على أنه بنى بهم إذ انصرف إليهم ; لأنه لم يتكلم ، وهذا جهل وغلط فاحش ، ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يبني على ما صنع وهو غير طاهر ، وسنبين هذا المعنى بعد في هذا الباب إن شاء الله .

[ ص: 177 ] وقد جاء في رواية الزهري ، فقال لهم ، وجاء في حديث أبي بكرة ، فأومأ إليهم ، وكلامه وإشارته في ذلك سواء ; لأنه كان في غير صلاة ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا زياد الأعلم ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه ، فأومأ إليهم أن امكثوا مكانكم ، ثم دخل ، ثم خرج ورأسه ينطف ، فصلى .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل في صلاة الفجر ، فأومأ بيده أن مكانكم ، ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم ، قال : وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة بإسناده ومعناه ، قال : فكبر ، وقال في آخره : فلما قضى الصلاة قال : إنما أنا بشر ، وإني كنت جنبا .

ففي هذا الحديث وحديث مالك أنه ذكر بعد دخوله في الصلاة ، وفي حديث ابن شهاب أنه ذكر قبل أن يدخل في الصلاة .

[ ص: 178 ] قال أبو عمر : قوله في هذا الحديث : يصلي بأصحابه ، يصحح رواية من روى أنه كان كبر ثم أشار إليهم أن امكثوا ، وفي رواية الزهري في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر حين انصرف بعد غسله ، فواجب أن تقبل هذه الزيادة أيضا ; لأنها شهادة منفردة أداها ثقة ، فوجب العمل بها ، هذا ما يوجبه الحكم في ترتيب الآثار وتهذيبها ، إلا أن ها هنا اعتراضات تعترض على مذهبنا في هذا الباب قد نزع غيرنا بها ، ونحن ذاكر ما يجب به العمل في هذا الحديث على مذهب مالك وغيره من العلماء بعون الله إن شاء الله .

أما مالك رحمه الله ، فإنه أدخل هذا الحديث في موطئه في باب إعادة الجنب غسله إذا صلى ولم يذكر - يعني حاله أنه كان جنبا حين صلى - ، والذي يجيء عندي على مذهب مالك من القول في هذا الحديث أنه لم يرد رحمه الله إلا الإعلام أن الجنب إذا صلى ناسيا قبل أن يغتسل ثم ذكر كان عليه أن يغتسل ، ويعيد ما صلى وهو جنب ، وأن نسيانه لجنابته لا يسقط عنه الإعادة وإن خرج الوقت لأنه غير متطهر ، والله لا يقبل صلاة بغير طهور لا من ناس ولا من متعمد ، وهذا أصل مجتمع عليه في الصلاة أن النسيان لا يسقط فرضها الواجب فيها ، ثم أردف مالك حديثه المذكور في هذا الباب بفعل عمر بن الخطاب أنه صلى بالناس وهو جنب ناسيا ثم ذكر بعد أن صلى ، فاغتسل وأعاد صلاته ولم يعد أحد ممن خلفه ، فمن فعل عمر - رضي الله عنه - أخذ مالك مذهبه في القوم يصلون خلف الإمام الجنب لا من الحديث المذكور ، والله أعلم .

[ ص: 179 ] وسنذكر وجه ذلك فيما بعد من هذا الباب إن شاء الله .

وأما الشافعي ، فإنه احتج بهذا الحديث في جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب ، وجعله دليلا على صحة ذلك ، وأردفه بفعل عمر في جماعة الصحابة من غير نكير ، ومما جاء عن علي - رضي الله عنه - في الإمام يصلي بالقوم وهو على غير وضوء أنه يعيد ولا يعيدون ، ثم قال الشافعي : وهذا هو المفهوم من مذاهب الإسلام والسنن ; لأن الناس إنما كلفوا في غيرهم الأغلب مما يظهر لهم أن مسلما لا يصلي على غير طهارة ، ولم يكلفوا علم ما يغيب عنهم .

قال أبو عمر : أما قول الشافعي إن الناس إنما كلفوا في غيرهم الأغلب مما يظهر لهم ، ولم يكلفوا علم ما غاب عنهم من حال إمامهم ، فقول صحيح إلا أن استدلاله بحديث هذا الباب على جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب هو خارج على مذهبه في أحد قوليه ، الذي يجيز فيه إحرام المأموم قبل إمامه ، وليس ذلك على مذهب مالك ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كبر وهو جنب ثم ذكر حاله ، فأشار إلى أصحابه أن امكثوا ، وانصرف ، فاغتسل ، لا يخلو أمره إذ رجع من أحد ثلاثة وجوه :

إما أن يكون بنى على التكبيرة التي كبرها وهو جنب ، وبنى القوم معه على تكبيرهم ، فإن كان هذا ، فهو منسوخ بالسنة والإجماع ، فأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة بغير طهور فكيف يبني على ما صلى وهو غير طاهر ، هذا لا يظنه ذو لب ولا يقوله أحد ; لأن علماء المسلمين [ ص: 180 ] مجمعون على أن الإمام لا يبني على شيء عمله في صلاته وهو على غير طهارة ، وإنما اختلفوا في بناء المحدث على ما صلى وهو طاهر قبل حدثه في صلاته ، وسنذكر أقوالهم في ذلك وفي بناء الراعف في آخر الباب إن شاء الله .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وقد ذكرنا أسانيد قوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور في باب عبد الرحمن بن القاسم ، والحمد لله .

والوجه الثاني : أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف بعد غسله استأنف صلاته ، واستأنفها أصحابه معه بإحرام جديد ، وأبطلوا إحرامهم معه ، وقد كان لهم أن يعتدوا به لو استخلف لهم من يتم بهم ، فهذا الوجه وإن صح في مذهب مالك من وجه ، فإنه يبطل الاستدلال به من هذا الحديث على جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب لأنهم إذا استأنفوا إحرامهم فلم يصلوا وراء جنب ، بل قد يستدل بمثل هذا - لو صح - من أبطل صلاتهم خلفه ، وهو خلاف قول مالك .

والوجه الثالث : أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر محرما مستأنفا لصلاته ، وبنى القوم خلفه على ما مضى من إحرامهم ، فهذا أيضا وإن كان فيه النكتة المجيزة لصلاة المأموم خلف الإمام الجنب لاستجزائهم ، واعتدادهم [ ص: 181 ] بإحرامهم خلفه لو صح ، فإن ذلك أيضا لا يخرج على مذهب مالك من هذا الحديث ; لأنه حينئذ يكون إحرام القوم في تلك الصلاة قبل إحرام إمامهم فيها ، وهذا غير جائز عندمالك وأصحابه ، لا يحتمل الحديث غير هذه الأوجه ، ولا يخلو من أحدها ، فلذلك قلنا : إن الاستدلال بحديث هذا الباب على جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب ليس بصحيح على مذهب مالك ، فتدبر ذلك تجده كذلك إن شاء الله .

وأما الشافعي ، فيصح الاستدلال بهذا الحديث على أصله ; لأن صلاة القوم عنده غير مرتبطة بصلاة إمامهم ; لأن الإمام قد تبطل صلاته إذا كان على غير طهارة ، وتصح صلاة من خلفه ، وقد تبطل صلاة المأموم ، وتصح صلاة الإمام بوجوه أيضا كثيرة ، فلهذا لم يكن عنده صلاتهما مرتبطة ، ولا يضر عنده اختلاف نياتهما ; لأن كلا يحرم لنفسه ، ويصلي لنفسه ، ولا يحمل فرضا عن صاحبه ، فجائز عنده أن يحرم المأموم قبل إمامه ، وإن كان لا يستحب له ذلك ، وله على هذا دلائل قد ذكرها هو وأصحابه في كتبهم .

وأما اختلاف الفقهاء في القوم يصلون خلف إمام ناس لجنابته ، فقال مالك والشافعي وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، لا إعادة عليهم ، وإنما الإعادة عليه وحده ، إذا علم اغتسل وصلى كل صلاة صلاها وهو على غير طهارة ، وروي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وعلي على اختلاف عنه ، وعليه أكثر العلماء ، وحسبك بحديث عمر في ذلك ، فإنه صلى بجماعة من الصحابة صلاة الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف ، فوجد في ثوبه احتلاما ، فغسله واغتسل ، وأعاد صلاته وحده ، ولم يأمرهم بإعادة ، وهذا في جماعتهم [ ص: 182 ] من غير نكير ، وقد روي عن عمر أنه أفتى بذلك ، رواه شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن عمر في جنب صلى بقوم ، قال : يعيد ولا يعيدون ، قال شعبة ، وقال حماد : أعجب إلي أن يعيدوا ، وقال أبو بكر الأثرم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي في الجنب يصلي بالقوم ، قال : يعيد ولا يعيدون ، قال : وسمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول : حدثنا هشيم ، عن خالد بن مسلمة ، قال : أخبرني محمد بن عمرو بن المصطلق أن عثمان بن عفان صلى بالناس صلاة الفجر ، فلما أصبح وارتفع النهار ، فإذا هو بأثر الجنابة ، فقال : كبرت والله ، كبرت والله ، فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا .

وسمعت أبا عبد الله يقول : يعيد ولا يعيدون ، وسألت سليمان بن حرب ، فقال : إذا صح لنا عن عمر شيء اتبعناه يعيد ولا يعيدون ، وذكر عن الحسن ، وإبراهيم ، وسعيد بن جبير مثله ، وهو قول إسحاق ، وداود ، وأبي ثور .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليهم الإعادة ; لأن صلاتهم مرتبطة بصلاة إمامهم ، فإذا لم تكن له صلاة لم تكن لهم ، وروي إيجاب الإعادة على من صلى خلف جنب أو غير متوضئ ، عن علي بن أبي طالب من حديث عبد الرزاق [ ص: 183 ] عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر ، عن علي ، وهو منقطع ، وفيه عن عمر خبر ضعيف لا يصح ، وهو قول الشعبي ، وحماد بن أبي سليمان ، وذكر الأثرم ، عن أحمد بن حنبل إذا صلى إمام بقوم وهو على غير وضوء ثم ذكر قبل أن يتم ، فإنه يعيد ويعيدون ، ويبتدئون الصلاة فإن لم يذكر حتى يفرغ من صلاته أعاد وحده ولم يعيدوا .

واختلف مالك والشافعي - والمسألة بحالها - في الإمام يتمادى في صلاته ذاكرا لجنابته ، أو ذاكرا أنه على غير وضوء ، أو مبتدئا صلاته كذلك ، وهو مع ذلك معروف بالإسلام .

فقال مالك وأصحابه : إذا علم الإمام بأنه على غير طهارة ، وتمادى في صلاته عامدا بطلت صلاة من خلفه ; لأنه أفسد عليهم .

وقال الشافعي صلاة القوم جائزة تامة ، ولا إعادة عليهم ; لأنهم لم يكلفوا علم ما غاب عنهم ، وقد صلوا خلف رجل مسلم في علمهم ، وبهذا قال جمهور فقهاء الأمصار ، وأهل الحديث ، وإليه ذهب ابن نافع صاحب مالك ، ومن حجة من قال بهذا القول ، أنه لا فرق بين عمد الإمام ونسيانه في ذلك ; لأنهم لم يكلفوا علم الغيب في حاله ، فحالهم في ذلك واحدة ، وإنما تفسد صلاتهم إذا علموا بأن إمامهم على غير طهارة فتمادوا خلفه ، فيكونون حينئذ المفسدين على أنفسهم ، وأما هو فغير مفسد عليهم بما لا يظهر من حاله إليهم ، لكن حاله في نفسه تختلف ، فيأثم في عمده إن تمادى بهم ، ولا إثم عليه إن لم يعلم ذلك وسها عنه .

[ ص: 184 ] قال أبو عمر : قد أوضحنا والحمد لله القول بأن حديث هذا الباب لا يصح الاحتجاج به في جواز صلاة من صلى خلف إمام على غير طهارة على مذهب مالك ، وأن أصل مذهبه في هذه المسألة فعل عمر - رضي الله عنه - في جماعة الصحابة لم ينكره عليه ولا خالفه فيه واحد منهم ، وقد كانوا يخالفونه في أقل من هذا مما يحتمل التأويل ، فكيف بمثل هذا الأصل الجسيم ، والحكم العظيم ؟ وفي تسليمهم ذلك لعمر ، وإجماعهم عليه ما تسكن القلوب في ذلك إليه ; لأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فيستحيل عليهم إضافة إقرار ما لا يرضونه إليهم .

وأما الشافعي ، فإنه جعل حديث هذا الباب أصلا في جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب وأردفه بفعل عمر ، وفتوى علي ، وقد تقدم ذكرنا لذلك في هذا الباب ، والذي تحصل عليه مذهب مالك عند أصحابه في هذا الباب في إمام أحرم بقوم فذكر أنه جنب أو على غير وضوء أنه يخرج ويقدم رجلا ، فإن خرج ولم يقدم أحدا قدموا لأنفسهم من يتم بهم صلاتهم ، فإن لم يفعلوا وصلوا أفذاذا أجزأتهم صلاتهم ، فإن انتظروه ولم يقدموا أحدا لم تفسد صلاتهم .

وقال يحيى بن يحيى ، عن ابن نافع إذا انصرف ولم يقدم وأشار إليهم أن امكثوا ، كان حقا عليهم أن لا يقدموا أحدا حتى يرجع فيتم بهم .

قال أبو عمر : أما قول من قال من أصحاب مالك إن القوم في هذه المسألة ينتظرون إمامهم حتى يرجع فيتم بهم ، فليس بشيء ، وإنما وجهه حتى يرجع فيبتدئ بهم لا يتم بهم على أصل مالك ; لأن إحرام الإمام لا يجتزأ به بإجماع من العلماء ، لأنه فعله على غير طهور ، وذلك باطل وإذا [ ص: 185 ] لم يجتزئ به استأنف إحرامه إذا انصرف ، وإذا استأنفه لزمهم مثل ذلك عند مالك ليكون إحرامهم بعد إحرام إمامهم ، وإلا فصلاتهم فاسدة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الإمام : إذا كبر فكبروا ، هذا هو عندي في تحصيل مذهبه وبالله التوفيق .

وأما الشافعي ، فإنه جعل هذا الحديث أصلا في ترك الاستخلاف ، فقال : الاختيار عندي إذا أحدث الإمام حدثا لا تجوز له معه الصلاة من رعاف أو انتقاض وضوء ، أو غيره أن يصلي القوم فرادى وألا يقدموا أحدا ، فإن قدموا ، أو قدم الإمام رجلا منهم فأتم بهم ما بقي من صلاتهم أجزأتهم صلاتهم ، وكذلك لو أحدث الإمام الثاني والثالث والرابع .

قال الشافعي : ولو أن إماما كبر وقرأ وركع أو لم يركع حتى ذكر أنه على غير طهارة ، فكان مخرجه ووضوءه أو غسله قريبا فلا بأس أن يقف الناس في صلاتهم حتى يتوضأ ويرجع فيستأنف ويتمون هم لأنفسهم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر أنه جنب فانتظره القوم فاستأنف لنفسه ; لأنه لا يعتد بتكبيرة كبرها وهو جنب ، فيتم القوم لأنفسهم ؛ لأنهم لو أتموا لأنفسهم حين خرج عنهم إمامهم أجزأتهم صلاتهم ، وجائز عنده أن يقطعوا صلاتهم إذا رابهم شيء من إمامهم ، فيتمون لأنفسهم على حديث جابر بن عبد الله في قصة معاذ .

قال : وإن كان خروج الإمام يتباعد أو طهارته تثقل ، صلوا لأنفسهم ، قال : ولو أشار إليهم أن ينتظروا أو كلمهم بذلك كلاما جاز ذلك ; لأنه في غير صلاة ، فإن انتظروه ، وكان قريبا فحسن ، وإن خالفوه فصلوا لأنفسهم [ ص: 186 ] فرادى أو قدموا غيره أجزأتهم صلاتهم ، قال : والاختيار عندي للمأمومين إذا فسدت على الإمام صلاته أن يبنوا فرادى ، قال : وأحب إلي ألا ينتظروه ، وليس أحد في هذا كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن فعلوا فصلاتهم جائزة على ما وصفنا ، قال : فلو أن إماما صلى ركعة ثم ذكر أنه جنب ، فخرج ، فاغتسل ، وانتظره القوم ، فرجع ، فبنى على الركعة ، فسدت عليه وعليهم صلاتهم ; لأنهم يأتمون به عالمين أن صلاته فاسدة فليس له أن يبني على ركعة صلاها جنبا ، قال : ولو علم بعضهم ولم يعلم بعض ، فسدت صلاة من علم ذلك منهم .

قال أبو عمر : من أجاز انتظار القوم للإمام إذا أحدث احتج بحديث هذا الباب ، وفيه ما قد ذكرنا ، واحتج أيضا بما حدثناه محمد بن عبد الله بن حكم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب صلى بالناس فأهوى بيده فأصاب فرجه ، فأشار إليهم أن كما أنتم ، فخرج ، فتوضأ ثم رجع إليهم فأعاد ، فاحتج بهذين الخبرين ، وما كان مثلهما من كره الاستخلاف من العلماء .

[ ص: 187 ] وقال أبو بكر الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن رجل أحدث وهو يصلي أيستخلف أم يقول لهم يبتدئون وهو كيف يصنع ؟ فقال : أما أنا فيعجبني أن يتوضأ ويستقبل ، قيل له : فهم كيف يصنعون ؟ فقال : أما هم ففيه اختلاف ، قال أبو بكر : ومذهب أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل رحمه الله - أن لا يبني في الحدث سمعته يقول : الحدث أشد ، والرعاف أسهل .

وقد تابع الشافعي على ترك الاستخلاف داود بن علي ، وأصحابه ، فقالوا : إذا أحدث الإمام في صلاته صلى القوم أفرادا ، وأما أهل الكوفة وأكثر أهل المدينة ، فكلهم يقول بالاستخلاف لمن نابه شيء في صلاته ، فإن جهل الإمام ولم يستخلف تقدمهم واحد منهم بإذنهم أو بغير إذنهم ، وأتم بهم ، وذلك عندهم عمل مستفيض ، والله أعلم .

إلا أن أبا حنيفة إنما يرى الاستخلاف لمن أحرم وهو طاهر ثم أحدث ، ولا يرى لإمام جنب أو على غير وضوء إذا ذكر ذلك في صلاته أن يستخلف ، وليس عنده ، في هذه المسألة موضع للاستخلاف ; لأن القوم عنده في غير صلاة كإمامهم سواء على ما ذكرناه من أصله في ذلك .

قال أبو عمر : لا تبين عندي حجة من كره الاستخلاف استدلالا بحديث هذا الباب ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في الاستخلاف كغيره ، ولا يجوز أن يتقدم أحد بين يديه إلا بإذنه وقد ، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مكانكم ، فلزمهم أن ينتظروه ، هذا لو صح أنه تركهم في صلاة ، فكيف وقد قيل إنهم استأنفوا معه ، فلو صح هذا لبطلت النكتة التي منها نزع من كره الاستخلاف .

وقد أجمع المسلمون على الاستخلاف فيمن يقيم لهم أمر [ ص: 188 ] دينهم ، والصلاة أعظم الدين ، وفي حديث سهل بن سعد دلالة على جواز الاستخلاف لتأخر أبي بكر ، وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الصلاة ، والله أعلم .

وحسبك ما مضى عليه من ذلك عمل الناس ، وسنذكر حديث سهل بن سعد في باب أبي حازم إن شاء الله .

قال أبو عمر : قد نزع قوم في جواز بناء المحدث على ما صلى قبل أن يحدث إذا توضأ بهذا الحديث ، ولا وجه لما نزعوا به في ذلك ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبن على تكبيره لما بنى قبل في هذا الباب ، ولو بنى ما كان فيه حجة أيضا ; لإجماعهم على أن ذلك غير جائز اليوم لأحد ، وأنه منسوخ بأن ما عمله المرء من صلاته ، وهو على غير طهارة لا يعتد به إذ لا صلاة إلا بطهور .

واتفق مالك والشافعي على أن من أحدث في صلاته لم يبن على ما مضى له منها ، ويستأنفها إذا توضأ ، وكذلك اتفقا على أنه لا يبني في القيء كما لا يبني في شيء من الأحداث .

واختلفا في بناء الراعف ، فقال الشافعي في القديم : يبني الراعف ، وانصرف عن ذلك في الجديد .

وقال مالك : إذا رعف في أول صلاته ، ولم يدرك ركعة بسجدتها فلا يبني ، ولكنه ينصرف فيغسل عنه الدم ويرجع فيعيد الإقامة والتكبير والقراءة ، ولا يبني عنده إلا من أدرك ركعة كاملة من صلاته ، فإذا كان ذلك ثم رعف خرج فغسل الدم عنه ، وبنى على ما مضى وصلى حيث شاء إلا في الجمعة فإنه لا يبني فيها إذا أدرك ركعة منها ثم رعف إلا في المسجد الجامع ، وإذا كان الراعف إماما فلا يعود إماما في تلك الصلاة أبدا ، ولا يتم صلاته إلا مأموما ، أو فذا ، هذا تحصيل مذهبه عند جميع أصحابه .

[ ص: 189 ] وقد روي عنه أنه قال : لولا أني أكره خلاف من مضى ما رأيت أن يبني الراعف ورأيت أن يتكلم ويستأنف ، قال : وهو أحب إلي ، وقد روي عنه أنه قال : إن الفذ لا يبني في الرعاف .

وأما الشافعي فقال : لا يبني الراعف إذا استدبر القبلة لغسل الدم عنه ، وكل من استدبر القبلة عنده وهو عالم بأنه في صلاة لم يجز له البناء ، وكان عليه الاستئناف أبدا ، والذي يسهو فيسلم من ركعتين ويخرج وهو يظن أنه قد أكمل صلاته ، وأنه ليس في صلاة فإن هذا يبني عنده ما لم يتكلم أو يحدث أو يطول أمره ، على حديث ذي اليدين ، وسنذكر أقاويل العلماء في معنى حديث ذي اليدين في باب أيوب إن شاء الله .

وقول ابن شبرمة في هذا كقول مالك والشافعي ، لا يبني أحد في الحدث ، ولكنه ينصرف فيتوضأ ويستقبل ، وإن كان إماما استخلف ، وقال الأوزاعي : إن كان حدثه من قيء ، أو ريح توضأ واستقبل ، وإن كان من رعاف توضأ وبنى ، وكذلك الدم غير الرعاف ، والرعاف عنده حدث ينقض الوضوء ، وقال الثوري : إذا كان حدثه من رعاف أو قيء توضأ وبنى ، وإن كان حدثه من بول أو ريح أو ضحك أعاد الوضوء والصلاة ، وقال ابن شهاب القيء والرعاف سواء ، يتوضأ ثم يتم على ما بقي من صلاته ما لم يتكلم ، وقد روي عن ابن شهاب في الإمام يرى بثوبه دما أو رعفا ، أو يجد حدثا ، أنه ينصرف ويقول للقوم أتموا صلاتكم ، ويصلي كل إنسان لنفسه ، رواه الزبيدي عنه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه ، وابن أبي ليلى : يبني في الأحداث كلها إذا [ ص: 190 ] سبقته في الصلاة ، والقيء والرعاف عند أبي حنيفة وأصحابه حدث كسائر الأحداث ، وهو قول جمهور سلف أهل العراق ينقض الرعاف ، والقيء ، وكل ما خرج من الجسد من دم أو نجاسة عندهم الطهارة كسائر الأحداث قياسا عند أبي حنيفة وأصحابه على المستحاضة ; لأنهم أثبتوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالوضوء لكل صلاة ، فالراعف عندهم ينصرف ، فيتوضأ ، ويبني على ما صلى على حسب ما ذكرنا من أصلهم في بناء المحدث ، وهم يقولون إن الراعف لو أحدث بعد انصرافه توضأ ، واستأنف ، ولم يبن ، وإنما يبني عندهم من أحدث في الصلاة ، وحسبك بمثل هذا ضعفا في النظر ، ولا يصح به خبر ، والحجج للفرق في هذا الباب تطول جدا وتكثر وفي بعضها تشعيب ، وإنما ذكرنا ها هنا ما للعلماء في تأويل حديث هذا الباب من المذاهب وأصول الأحكام ، والحمد لله .

والحجة عندنا ألا وضوء على الرعاف والقيء أن المتوضئ بإجماع لا ينتقض وضوءه باختلاف إلا أن يكون هناك سنة يجب المصير إليها ، وهي معدومة ها هنا ، وبالله توفقنا ، وسنذكر أحكام المستحاضة في باب نافع من هذا الكتاب إن شاء الله .




الخدمات العلمية