الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      قال أئمتنا : مراتب العلوم عشرة : الأولى : علم الإنسان بنفسه ، وصفاته وكلامه ، ولذاته . الثانية : العلم الضروري باستحالة المستحيلات ، وانحطت هذه عن الأولى للحاجة فيها إلى الفكر في ذوات المتضادات وتضادها . الثالثة : العلم بالمحسات وانحطت عن الثانية ، لتطرق الآفات إلى الحواس . الرابعة : العلم الحاصل عقب خبر التواتر ، وانحطت عما قبلها [ ص: 91 ] لإمكان . التواطؤ على المخبرين ، وأيضا لا بد من فكر . ولهذا قال الكعبي : إن العلم عقبه نظري . الخامسة : العلم بالحرف والصناعات ، وانحطت لما فيها من المعاناة والمقاسات وتوقع الغلطات . السادسة : العلم المستند إلى قرائن الأحوال ، كخجل الخجل ، وكوجل الوجل ، وغضب الغضبان ، وانحطت لتعارض الاحتمالات في محال الأحوال . السابعة : العلم الحاصل بالأدلة العقلية وانحطت ; لأن النظري منحط عن الضروري . الثامنة : العلم بجواز النبوات ، وجواز ورود الشرائع . التاسعة : العلم بالمعجزات إذا وقعت . العاشرة : العلم بوقوع السمعيات ومستندها الكتاب والسنة .

                                                      وهنا أمور : أحدها : العلم النظري ينضبط بالضابط سببه الذهن قبله ، والعلم العادي يخلي العكس لا ينضبط سببه حتى يحصل هو فإذا حصل علمنا أن سببه قد كمل ، ولو روجعنا في أول زمن كماله لم يكن لنا شعور به حالة العلم بالمتواترات ، فإن السامع لا يزال يترقى في الظنون ترقيا خفيا حتى ينتهي إلى عدد حصل عنده العلم في نفس الأمر ، ولو قيل له : أي عدد حصل [ ص: 92 ] لك عنده العلم ؟ لم يفطن لذلك .

                                                      وكذلك العلوم العادية بجملتها . وهذا يدل على أن من العلوم ما يقوم بالنفس ولا تشعر النفس به أول قيامه ، وهو من العجب . الثاني : أن هذه العلوم تتفاوت كما بينا ، ولا شك أن البديهيات والحسيات راجحة على النظريات ، وأما أن البديهيات تترجح على الحسيات أو العكس ، فمحل نظر . ويمكن أن يترجح بعض البديهيات على بعض ، وكذا الضروريات والنظريات ، فإن كل ما كان مقدماته أجلى وأقل كان راجحا على ما ليس كذلك ، ولهذا يجد الإنسان تفرقة بين علمه بأن الواحد نصف الاثنين ، وأن الكل أعظم من الجزء ، وبين علمه بثبوت الجوهر الفرد والخلاء وغيرهما من المسائل النظرية اليقينية مع أن كل واحد منهما يقينيا على اعتقاده . لا يقال : إنه وإن اعتقد ذلك في نفسه لكنه ليس كذلك في نفس الأمر ; لأنا نقول : يلزم مثله في كل نظري ، فلم يحصل الجزم بشيء منها . الثالث : قال الإمام في باب الأخبار من البرهان " : العلوم الحاصلة عن حكم العادات مبنية على قرائن الأحوال ، ولا تنضبط انضباط المحدودات ، وهذا كالعلم بخجل الخجل ، ووجل الوجل ، وغضب الغضبان ، فإذا وجدت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهية لا يأباها إلا جاحد ، ولو رام واجدها ضبطها لم يقدر [ ص: 93 ] ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه : من شاهد رضيعا قد التقم ثدي امرأة ، ورأى منه آثار الامتصاص ، وحركة الغلصمة لم يسترب في وصول اللبن إلى الجوف ، وحل له أن يشهد شهادة تامة بالرضاع . ولو أنه لم يشهد بالرضاع ، ولكن شهد بالقرائن الحاملة له على الشهادة لم يثبت الرضاع . وذلك لأن ما يسمعه القاضي وصفا لا يبلغ مبلغ العيان ، والذي يفضي بالعاين إلى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الوصافين ، ولو قيل لأذكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا : افصل بين حمرة وجنة الغضبان وبين حمرة الموعوك لم تساعده عبارة ، فإن القرائن لا يبلغها غايات العبارات ، ومن ثم لم يتوقف حصول العلم بخبر التواتر على عدد محصور ، ولكن إذا ثبت قرائن الصدق ثبت العلم به .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية