الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 325 ] فصل

من ذلك " نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل : خبثت نفسي ، ولكن ليقل : لقست نفسي " ومعناهما واحد ؛ أي : غثت نفسي ، وساء خلقها ، فكره لهم لفظ الخبث ؛ لما فيه من القبح والشناعة ، وأرشدهم إلى استعمال الحسن ، وهجران القبيح ، وإبدال اللفظ المكروه بأحسن منه .

ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر : ( لو أني فعلت كذا وكذا ، وقال : إن لو تفتح عمل الشيطان ) وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة ، وهو أن يقول : ( قدر الله وما شاء فعل ) وذلك لأن قوله لو كنت فعلت كذا وكذا ، لم يفتني ما فاتني ، أو لم أقع فيما وقعت فيه ، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة ، فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته ب " لو " وفي ضمن " لو " ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ، فإن ما وقع مما يتمنى خلافه ، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته ، فإذا قال : لو أني فعلت كذا ، لكان خلاف ما وقع فهو محال ، إذ خلاف المقدر المقضي محال ، فقد تضمن كلامه كذبا وجهلا ومحالا ، وإن سلم من التكذيب بالقدر ، لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت كذا ، لدفعت ما قدر الله علي .

[ ص: 326 ] فإن قيل : ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر ، فهو يقول : لو وقفت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء ، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد ، فكلاهما من القدر .

قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه ، وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر ، فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به ، أو يخفف أثر ما وقع ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحب الكيس ويأمر به

والكيس : هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير ، وأما العجز ، فإنه يفتح عمل الشيطان ، فإنه إذا عجز عما ينفعه ، وصار إلى الأماني الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عليه عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل ، ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما ، وهما مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم ، والحزن والجبن ، والبخل وضلع الدين ، وغلبة الرجال ، فمصدرها كلها عن العجز والكسل ، وعنوانها " لو " فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن " لو " تفتح عمل الشيطان ) فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن التمني رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر .

وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي ، وتحول بينه وبينها ، فيقع في المعاصي ، فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ، ومباديه وغاياته ، وموارده ومصادره ، وهو مشتمل على ثماني خصال ، كل خصلتين منها قرينتان ، فقال : ( أعوذ بك من الهم والحزن ) وهما قرينان فإن المكروه الوارد [ ص: 327 ] على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين ، فإنه إما أن يكون سببه أمرا ماضيا ، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز ، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ؛ بل بالرضى ، والحمد والصبر والإيمان بالقدر ، وقول العبد قدر الله وما شاء فعل .

وما يستقبل لا يدفع أيضا بالهم ، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه ، فلا يعجز عنه ، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة به ، ويستجن بجنة حصينة من التوحيد والتوكل ، والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له والرضى به ربا في كل شيء ، ولا يرضى به ربا فيما يحب دون ما يكره ، فإذا كان هكذا ، لم يرض به ربا على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبدا على الإطلاق ، فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة ، بل مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد ، فيما ينفعه ويقطعان عليه طريق السير ، أو ينكسانه إلى وراء ، أو يعوقانه ويقفانه ، أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه ، وجد في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر ، بل إن عاقه الهم والحزن عن شهواته وإراداته التي تضره في معاشه ومعاده انتفع به من هذا الوجه

وهذا من حكمة العزيز الحكيم ، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته ، [ ص: 328 ] وخوفه ورجائه ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ؛ ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم ، والأحزان والآلام القلبية ، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية ، وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار ، وإن أريد بها الخير ، كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد ، والإقبال على الله ، والأنس به

وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه ، وخوفه ورجاؤه ، والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب ، الغالب عليه ، الذي متى فقده فقد قوته ، الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام ، التي هي أعظم أمراضه ، وأفسدها له ، إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر ، هيأه له ، فمنه الإيجاد ، ومنه الإعدام ، ومنه الإمداد ، وإذا أقامه في مقام ، أي مقام كان ، فبحمده أقامه فيه ، وبحكمته أقامه فيه ، ولا يليق به غيره ، ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقا هو للعبد ، فيكون بمنعه ظالما له ؛ بل إنما منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعبده ، وليتضرع إليه ، ويتذلل بين يديه ، ويتملقه ، ويعطي فقره إليه حقه ، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ، فاقة تامة إليه ، على تعاقب الأنفاس ، وهذا هو الواقع في نفس الأمر ، وإن لم يشهده العبد ، فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه ، بخلا منه ، ولا نقصا من خزائنه ، ولا استئثارا عليه بما هو حق للعبد ؛ بل منعه ليرده إليه ، وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه ، وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له ، ولذة الفقر إليه ، وليلبسه خلعة العبودية ، ويوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره .

وأن منعه عطاء ، وعزله تولية ، وعقوبته تأديب ، وامتحانه محبة وعطية ، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه به إليه .

[ ص: 329 ] وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه ، وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ، ولا يحسن أن يتخطاه ، والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه وفضله ، و ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [الأنعام : 53] فهو سبحانه أعلم بمواقع الفضل ، ومحال التخصيص ، ومحال الحرمان ، فبحمده وحكمته أعطى ، وبحمده وحكمته حرم ، فمن رده المنع إلى الافتقار إليه ، والتذلل له ، وتملقه ، انقلب المنع في حقه عطاء ، ومن شغله عطاؤه ، وقطعه عنه انقلب العطاء في حقه منعا ، فكل ما شغل العبد عن الله فهو مشئوم عليه

وكل ما رده إليه فهو رحمة به ، والرب تعالى يريد من عبده أن يفعل ، ولا يقع الفعل حتى يريد سبحانه من نفسه أن يعينه ، فهو سبحانه أراد منا الاستقامة دائما ، واتخاذ السبيل إليه ، وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا عليها ، ومشيئته لنا ، فهما إرادتان : إرادة من عبده أن يفعل وإرادة من نفسه أن يعينه ، ولا سبيل له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة ، ولا يملك منها شيئا ، كما قال تعالى : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) [ التكوير : 29 ] فإن كان مع العبد روح أخرى ، نسبتها إلى روحه ، كنسبة روحه إلى بدنه ، يستدعي بها إرادة الله من نفسه ، أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلا ، وإلا فمحله غير قابل للعطاء ، وليس معه إناء يوضع فيه العطاء ، فمن جاء بغير إناء رجع بالحرمان ، ولا يلومن إلا نفسه .

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الهم والحزن ، وهما قرينان ، ومن العجز والكسل ، وهما قرينان ، فإن تخلف كمال العبد وصلاحه عنه ، إما أن يكون لعدم قدرته عليه ، فهو عجز ، أو يكون قادرا عليه ، لكن لا يريد ، فهو كسل ، وينشأ عن هاتين الصفتين فوات كل خير ، وحصول كل شر ، ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه ، وهو الجبن ، وعن النفع بماله وهو البخل ، ثم ينشأ له بذلك غلبتان. غلبة بحق ، وهي غلبة الدين ، وغلبة بباطل ، وهي غلبة الرجال ، وكل هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل

ومن هذا قوله في الحديث الصحيح للرجل الذي [ ص: 330 ] قضى عليه ، فقال ( حسبي الله ونعم الوكيل ) فقال : ( إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ) فهذا قال ( حسبي الله ونعم الوكيل ) بعد عجزه عن الكيس ، الذي لو قام به ، لقضي له على خصمه ، فلو فعل الأسباب التي يكون بها كيسا ، ثم غلب فقال : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) لكانت الكلمة قد وقعت موقعها ، كما أن إبراهيم الخليل ، لما فعل الأسباب المأمور بها ، ولم يعجز بتركها ، ولا بترك شيء منها ، ثم غلبه عدوه ، وألقوه في النار ، قال في تلك الحال : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) فوقعت الكلمة موقعها ، واستقرت في مظانها ، فأثرت أثرها ، وترتب عليها مقتضاها .

التالي السابق


الخدمات العلمية