الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ) [ ص: 151 ]

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت ، والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال : ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ) قيل : إنه روبيل ، وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة ، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي ، فقال : الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعا في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم ، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله ؛ غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم ، فالفرق ظاهر ، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأما هذا الصواع فإن أحدا لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق ، فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق ، فشهدوا بناء على هذا الظن ، ثم بين أنهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم : ( وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في الجواب أن تقدير الكلام ( إن ابنك سرق ) في قول الملك وأصحابه ، ومثله كثير في القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            قال تعالى : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ( هود : 87 ) أي عند نفسك ، وقال تعالى : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ( الدخان : 49 ) أي عند نفسك ، وأما عندنا فلا ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ، ومثل هذا الشيء يسمى سرقة ، فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن ، قال تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ( الشورى : 40 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئا يوهم ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ ( إن ابنك سرق ) بالتشديد ، أي نسب إلى السرقة ، فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل ؛ لأن القوم نسبوه إلى السرقة ، إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراءات لا تدفع السؤال ، لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا : القراءة الأولى باطلة ، والقراءة الحقة هي هذه ، أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقيا سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح ، فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة ، أما قوله : ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى : ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال : إذا علمت مثل الشمس فاشهد ، وذلك أيضا يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضا عبارة عن قوله : أشهد ؛ لأن قوله : أشهد إخبار عن الشهادة ، والإخبار عن الشهادة غير الشهادة .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : الشهادة عبارة عن الحكم الذهني ، وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وما كنا للغيب حافظين ) ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله ، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال عكرمة : معناه : لعل الصواع دس في متاعه [ ص: 152 ] بالليل ، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : قال مجاهد والحسن وقتادة : وما كنا نعلم أن ابنك يسرق ، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقا من الله في رده إليك .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم : فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق ؟ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم ، فقالوا عند هذا الكلام : إنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة ، وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها ، فقوله : ( وما كنا للغيب حافظين ) إشارة إلى هذا المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لعله كان ذلك الحكم مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافرا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا : ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم ، فقالوا : ( واسأل القرية التي كنا فيها ) ، والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر ، وقال قوم : بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش ، ثم فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار ، وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب ، قال أبو علي الفارسي : ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات ، وجاحد المحسوسات .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال أبو بكر الأنباري : المعنى : اسأل القرية والعير والجدار والحيطان ؛ فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبرك بصحة ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه وجه ثالث : وهو أن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما كاملا فقد يقال فيه : سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه ، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي ما بقي للشك فيه مجال .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( والعير التي أقبلنا فيها ) فقال المفسرون : كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا : سلهم عن هذه الواقعة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا : ( وإنا لصادقون ) يعني : سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون ، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده : وأنا صادق في ذلك ، يعني : فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية