الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ( 61 ) )

يعني تعالى ذكره : فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين ، كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( مجمع بينهما ) قال : بين البحرين .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وقوله : ( نسيا حوتهما ) يعني بقوله : نسيا : تركا .

كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( نسيا حوتهما ) قال : أضلاه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أضلاه .

قال بعض أهل العربية : إن الحوت كان مع يوشع ، وهو الذي نسيه ، فأضيف النسيان إليهما ، كما قال ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) وإنما يخرج من الملح دون العذب .

وإنما جاز عندي أن يقال : ( نسيا ) لأنهما كانا جميعا تزوداه لسفرهما ، فكان حمل أحدهما ذلك مضافا إلى أنه حمل منهما ، كما يقال : خرج القوم من موضع [ ص: 58 ] كذا ، وحملوا معهم كذا من الزاد ، وإنما حمله أحدهما ولكنه لما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلى جميعهم ، فكذلك إذا نسيه حامله في موضع قيل : نسي القوم زادهم ، فأضيف ذلك إلى الجميع بنسيان حامله ذلك ، فيجري الكلام على الجميع والفعل من واحد ، فكذلك ذلك في قوله : ( نسيا حوتهما ) لأن الله عز ذكره خاطب العرب بلغتها ، وما يتعارفونه بينهم من الكلام .

وأما قوله : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) فإن القول في ذلك عندنا بخلاف ما قال فيه ، وسنبينه إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه .

وأما قوله : ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ) فإنه يعني أن الحوت اتخذ طريقه الذي سلكه في البحر سربا .

كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ) قال : الحوت اتخذ . ويعني بالسرب : المسلك والمذهب ، يسرب فيه : يذهب فيه ويسلكه .

ثم اختلف أهل العلم في صفة اتخاذه سبيله في البحر سربا ، فقال بعضهم : صار طريقه الذي يسلك فيه كالجحر .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله ( سربا ) قال : أثره كأنه جحر .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك : " ما انجاب ماء منذ كان الناس غيره ثبت مكان الحوت الذي فيه فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى ، فرأى مسلكه ، فقال : ذلك ما كنا نبغي " .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ) [ ص: 59 ] قال : جاء فرأى أثر جناحيه في الطين حين وقع في الماء ، قال ابن عباس ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ) وحلق بيده .

وقال آخرون : بل صار طريقه في البحر ماء جامدا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : سرب من الجر حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك ، فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا .

وقال آخرون : بل صار طريقه في البحر حجرا .

ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : حمل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة .

وقال آخرون : بل إنما اتخذ سبيله سربا في البر إلى الماء ، حتى وصل إليه لا في البحر .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ) قال : قال : حشر الحوت في البطحاء بعد موته حين أحياه الله ، قال ابن زيد ، وأخبرني أبو شجاع أنه رآه قال : أتيت به فإذا هو شقة حوت وعين واحدة ، وشق آخر ليس فيه شيء .

والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل : واتخذ الحوت طريقه في البحر سربا . وجائز أن يكون ذلك السرب كان بانجياب عن الأرض ، وجائز أن يكون كان بجمود الماء ، وجائز أن يكون كان بتحوله حجرا .

وأصح الأقوال فيه ما روي الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبي عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية