الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( الباب الخامس ) )

( في ذكر النبوة وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعض الأنبياء وفضله وفضل أصحابه وأمته صلى الله عليه وسائر الأنبياء والمرسلين وسلم وعظم وكرم ) اعلم أن حاجة الخلق إلى إرسال الرسل وبعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ضرورية ، لا ينتظم لهم حال ، ولا يصلح لهم دين ولا بال إلا بذلك ، فهم أشد احتياجا إلى ذلك من إرسال المطر والهواء ، بل ومن النفس الذي لابد لهم منه ، كما في مفتاح دار السعادة للمحقق ابن القيم رحمه الله تعالى ، وأحالت السمنية إرسال الرسل لتوقيفه على علم المرسل بمن أرسله ، ولا طريق إليه إلا الخبر ، وأعلى أنواعه المتواتر وهو لا يفيد عندهم علما ، فلعل القائل له أرسلناك إلى قوم كذا شيطان مثلا .

وزعمت البراهمة وهم طائفة من المجوس أن إرسال الرسل عبث لا يليق بالحكيم لإغناء العقل عن الرسل ، لأن ما جاء به الرسل إن كان موافقا للعقل حسنا عنده فهو يفعله وإن لم يأت به ، وإن كان مخالفا له قبيحا فإن احتاج إليه فعله ، وإلا تركه ، وقالت المعتزلة بوجوب ذلك على الله تعالى بالنظر إلى ذاته .

والحق أنه جائز عقلا في حقه تعالى واجب سمعا وشرعا ، وإلى ذلك أشار بقوله : [ ص: 257 ]

( ( ومن عظيم منة السلام ولطفه بسائر الأنام ) )      ( أن أرشد الخلق إلى الوصول
مبينا للحق بالرسول )



( ( ومن عظيم منة ) ) الرب ( ( السلام ) ) المنة مأخوذة من المن ، وهو الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه ، ومن أسماء الله المنان ، وهو المنعم المعطي من المن وهو العطاء ، وقد يقع المنان على الذي لا يعطي شيئا إلا منه واعتد به على من أعطاه ، وهو مذموم ، لأن المنة تفسد الصنيعة إذا كانت من غير الباري جل وعلا ، والسلام من أسمائه تعالى ، ومعناه ذو السلامة من كل عيب ونقيصة ، فيكون من أسماء التنزيه ، وقيل معناه مالك تسليم العباد من المهالك فيرجع إلى معنى القادر ، وقيل ذو السلام على المؤمنين في الجنان فيرجع إلى الكلام القديم الأزلي قال تعالى ( سلام قولا من رب رحيم ) والفرق بين القدوس والسلام أن القدوس فيه إشارة إلى أنه بريء من جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر ، والسلام فيه إشارة إلى أنها لا يطرأ عليه شيء من ذلك في المستقبل ( ( و ) ) من عظيم ( ( لطفه ) ) تعالى أي رفقه ( ( بسائر ) ) أي : جميع ( ( الأنام ) ) كسحاب ، والآنام بالمد والأنيم كأمير الخلق أو الإنس والجن وجميع ما على وجه الأرض ، أي : من رفقه تعالى بهم في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه ، يقال : لطف به وله بالفتح يلطف لطفا إذا رفق به ، وأما لطف بالضم يلطف فمعناه صغر ودق ، ومن أسماء الله تعالى اللطيف وهو الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم .

وإنما عدل عن قوله : منة المنان ولطفه بسائر الإنسان لعدم شمول نحو الجن ، فبسبب عموم الأنام على الإنسان عدل إليه ، لأن الإنسان كالإنس البشر ، والمن بإرسال الرسل شاملة للثقلين بل لكل الخلق ، والله أعلم .

( ( أن ) ) بفتح الهمزة وسكون النون حرف مصدري تسبك مع ما بعدها بمصدر ( ( أرشد ) ) أي : هدى ودل ودعا سبحانه وتعالى ، يقال : رشد كنصر وفرح رشدا ورشادا هدى ، واسترشد طلب الرشد ، والرشد الاستقامة على طريق الخلق مع تصلب فيه ، والرشيد من أسماء الله تعالى الهادي إلى [ ص: 258 ] سواء الصراط ، والذي حسن تقديره فيما قدره ، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ ، والخبر في البيت قبله ، ومن عظيم . . . إلخ ، والتقدير : رشد الخلق إلى الوصول كان من عظيم منة السلام ( ( الخلق ) ) من الثقلين الإنس والجن ( ( إلى الوصول ) ) إلى معرفة الله تعالى وعبادته ، والقيام بما شرعه من التكليف الذي ثمرته الفوز بالسلامة الأبدية ، والسعادة السرمدية ، والنعيم المقيم في جنات النعيم ، ورضى الرب الرحمن ، والنظر إليه في دار القرار ، مع الأتقياء الأخيار ، والأولياء الأبرار ، حال كونه تعالى ( مبينا ) أي مظهرا وموضحا ( ( لـ ) ) نهج ( ( الحق ) ) ، وهو الحكم المطابق للواقع ، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ، ويقابله الباطل ، ومن أسمائه تعالى الحق أو من صفاته ، وأما الصدق ، فقد شاع في الأقوال ويقابله الكذب ، ويفرق بين الحق والصدق بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع ، والصدق من جانب الحكم ، فعلى هذا معنى صدق الحكم مطابقة الواقع ، ومعنى حقيقته مطابقة الواقع إياه ، والمشهور فيهما مطابقة كل واحد منهما للواقع ( ( بالرسول ) ) متعلق بمبين ، والرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، فإن لم يؤمر بتبليغه فنبي فقط ، وتقدم في صدر الكتاب ، وسئل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح ابن حبان عن عدد الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر . وفي رواية : أربعة عشر . والأولى عدم حصرهم في عدد معين ؛ لأن الحديث ضعيف ، وربما خالف قوله تعالى ( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ) فلا يؤمن من دخول من ليس منهم فيهم ، وخروج بعضهم عنهم ، وأولوا العزم منهم خمسة محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية