الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 88 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ( 82 ) )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى : وأما الحائط الذي أقمته ، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما .

اختلف أهل التأويل في ذلك الكنز فقال بعضهم : كان صحفا فيها علم مدفونة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ( وكان تحته كنز لهما ) قال : كان تحته كنز علم .

حدثنا يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعيد بن جبير : ( وكان تحته كنز لهما ) قال : كان كنز علم .

حدثنا محمد بن بشار ، قال ثنا عبد الرحمن ، قال ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ( وكان تحته كنز لهما ) قال : علم .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ( وكان تحته كنز لهما ) قال : علم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( وكان تحته كنز لهما ) قال : صحف لغلامين فيها علم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : صحف علم .

حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : ثنا هنادة ابنة مالك الشيبانية ، قالت : سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول [ ص: 89 ] في قول الله عز وجل : ( وكان تحته كنز لهما ) قال سطران ونصف ، لم يتم الثالث : "عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب ، عجبت للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح" وقد قال : ( وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) قالت : وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء ، وكان نساجا .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن حبيب بن ندبة ، قال : ثنا سلمة بن محمد ، عن نعيم العنبري ، وكان من جلساء الحسن ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : ( وكان تحته كنز لهما ) قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : "بسم الله الرحمن الرحيم : عجبت لمن يؤمن كيف يحزن ، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها ، كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما كان الكنز إلا علما .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، في قوله ( وكان تحته كنز لهما ) قال : صحف من علم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، عن عمر مولى غفرة ، قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف ( وكان تحته كنز لهما ) قال : كان لوحا من ذهب مصمت ، مكتوبا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجب من عرف الموت ثم ضحك ، عجب من أيقن بالقدر ثم نصب ، عجب من أيقن بالموت ، ثم أمن ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله . [ ص: 90 ]

وقال آخرون : بل كان مالا مكنوزا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة ( وكان تحته كنز لهما ) قال : كنز مال .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن عكرمة ، مثله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو حصين ، عن عكرمة ، مثله ، قال شعبة : ولم نسمعه منه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ( وكان تحته كنز لهما ) قال : مال لهما ، قال قتادة : أحل الكنز لمن كان قبلنا ، وحرم علينا ، فإن الله يحل من أمره ما يشاء ، ويحرم ، وهي السنن والفرائض ، ويحل لأمة ، ويحرم على أخرى ، لكن الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له .

وأولى التأولين في ذلك بالصواب : القول الذي قاله عكرمة ، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من مال ، وإن كل ما كنز فقد وقع عليه اسم كنز فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل ، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك ، لعلل قد بيناها في غير موضع .

وقوله : ( وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ) يقول : فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدتهما ، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته رحمة من ربك بهما ، يقول : فعلت فعل هذا بالجدار ، رحمة من ربك لليتيمين .

وكان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن [ ص: 91 ] ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس ، في قوله ( وكان أبوهما صالحا ) قال : حفظا بصلاح أبيهما ، وما ذكر منهما صلاح .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا سفيان ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، بمثله .

وقوله : ( وما فعلته عن أمري ) يقول : وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي ، ومن تلقاء نفسي ، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما فعلته عن أمري ) : كان عبدا مأمورا ، فمضى لأمر الله .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( وما فعلته عن أمري ) ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي .

وقوله : ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) يقول : هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني ، تأويل : يقول : ما تئول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها ، وإنكارك لها صبرا .

وهذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه ، تأديب منه له ، وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوه واستهزءوا به وبكتابه ، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه ، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها ، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى ، إذ لم يكن عالما بعواقبها ، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة ، ينبئ عن صحة ذلك قوله : ( وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ) . ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه ، يعلم نبيه أن تركه جل جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين ، بغير نظر منه لهم ، وإن كان ذلك فيما يحسب من لا علم له بما الله مدبر فيهم نظرا منه لهم ، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي الدائم .

التالي السابق


الخدمات العلمية