الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون عطف على جملة ألا لله الدين الخالص لزيادة تحقيق معنى الإخلاص لله في العبادة وأنه خلوص كامل لا يشوبه شيء من الإشراك ، ولا إشراك الذين زعموا أنهم اتخذوا أولياء وعبدوهم حرصا على القرب من الله يزعمونه عذرا لهم فقولهم من فساد الوضع وقلب حقيقة العبادة بأن جعلوا عبادة غير الله وسيلة إلى القرب من الله فنقضوا بهذه الوسيلة مقصدها وتطلبوا القربة بما أبعدها ، والوسيلة إذا أفضت إلى إبطال المقصد كان التوسل بها ضربا من العبث .

واسم الموصول مراد به : المشركون ؛ وهو في محل رفع على الابتداء وخبره جملة " إن الله يحكم بينهم " .

وجملة " ما نعبدهم " مقول لقول محذوف لأن نظمها يقتضي ذلك إذ ليس في الكلام ما يصلح لأن يعود عليه نون المتكلم ومعه غيره ، فتعين أنه ضمير عائد إلى المبتدأ ، أي : هم المتكلمون به وبما يليه ، وفعل القول محذوف ؛ وهو : كثير ، وهذا القول المحذوف يجوز أن يقدر بصيغة اسم الفاعل فيكون حالا من الذين اتخذوا ؛ أي قائلين : ما نعبدهم ، ويجوز أن يقدر بصيغة الفعل . والتقدير : قالوا ما نعبدهم ، وتكون الجملة حينئذ بدل اشتمال من جملة " اتخذوا " فإن اتخاذهم الأولياء اشتمل على هذه المقالة .

وقوله إن الله يحكم بينهم وعيد لهم على قولهم ذلك فعلم منه إبطال تعللهم في قولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله لأن الواقع أنهم عبدوا الأصنام أكثر من عبادتهم الله .

فضمير " بينهم " عائد إلى الذين اتخذوا أولياء . والمراد بـ " ما هم فيه يختلفون " [ ص: 322 ] اختلاف طرائقهم في عبادة الأصنام وفي أنواعها من الأنصاب والملائكة والجن على اختلاف المشركين في بلاد العرب .

ومعنى الحكم بينهم أنه يبين لهم ضلالهم جميعا يوم القيامة إذ ليس معنى الحكم بينهم مقتضيا الحكم لفريق منهم على فريق آخر بل قد يكون الحكم بين المتخاصمين بإبطال دعوى جميعهم .

ويجوز أن يكون على تقدير معطوف على " بينهم " مماثل له دلت عليه الجملة المعطوف عليها وهي ألا لله الدين الخالص لاقتضائها أن الذين أخلصوا الدين لله قد وافقوا الحق ؛ فالتقدير : يحكم بينهم وبين المخلصين على حد قول النابغة :


فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل

تقديره : بين الخير وبيني بدلالة سياق الرثاء والتلهف .

والاستثناء في قوله " إلا ليقربونا " استثناء من علل محذوفة ، أي : ما نعبدهم لشيء إلا لعلة أن يقربونا إلى الله فيفيد قصرا على هذه العلة قصر قلب إضافي ، أي : دون ما شنعتم علينا من أننا كفرنا نعمة خالقنا إذ عبدنا غيره . وقد قدمنا آنفا من أنهم أرادوا به المعذرة ويكون في أداة الاستثناء استخدام ؛ لأن اللام المقدرة قبل الاستثناء لام العاقبة لا لام العلة إذ لا يكون الكفران بالخالق علة لعاقل ولكنه صائر إليه ، فالقصر لا ينافي أنهم أعدوهم لأشياء أخر إذا عدوهم شفعاء واستنجدوهم في النوائب ، واستقسموا بأزلامهم للنجاح ، كما هو ثابت في الواقع .

والزلفى : منزلة القرب ، أي : ليقربونا إلى الله في منزلة القرب ، والمراد به : منزلة الكرامة والعناية في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بمنازل الآخرة ، ويكون منصوبا بدلا من ضمير " ليقربونا " بدل اشتمال ، أي : ليقربوا منزلتنا إلى الله .

ويجوز أن يكون زلفى : اسم مصدر فيكون مفعولا مطلقا ، أي : قربا شديدا .

وأفاد نظم " هم فيه يختلفون " أمرين أن الاختلاف ثابت لهم ، وأنه متكرر متجدد ، فالأول من تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، والثاني من كون المسند فعلا مضارعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية