الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما في الأسبوع فالاثنين والخميس والجمعة فهذه هي الأيام الفاضلة فيستحب فيها الصيام وتكثير الخيرات لتضاعف أجورها ببركة هذه الأوقات .

التالي السابق


(وأما) ما يتكرر (في الأسبوع فالاثنين والخميس والجمعة فهذه الأيام الفاضلة ) الشريفة التي (يستحب فيها الصيام وتكثير الخيرات) والبر والصدقات (لتضاعف أجورها) وتنمو بركاتها (ببركة هذه الأوقات) أخرج مسلم من حديث أبي قتادة : "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله كيف نصوم ؟ . . . " الحديث بطوله وفيه : "وسئل عن صوم يوم الاثنين ؟ قال : ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه " ، وفي الحديث من رواية شعبة قال : "وسئل عن صوم يوم الاثنين والخميس " قال مسلم : فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهما ، وفي لفظ آخر : "سئل عن صوم يوم الاثنين ؟ فقال : ولدت فيه وفيه أنزل علي " ، لم يخرج البخاري هذا الحديث .

وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث عائشة مرفوعا : "كان يتحرى صيام يوم الاثنين " .

وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا قال : "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " ، وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أسامة بن زيد بأتم منه .

وأما صوم يوم الجمعة فيكره إفراده لما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة : "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده " ، وفي رواية لمسلم : "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " .

وأخرج الحاكم والبزار من حديث أبي هريرة مرفوعا : "يوم الجمعة عيدنا فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده " .

وأخرج البخاري ومسلم عن محمد بن عباد بن جعفر "سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم ورب هذا البيت " زاد البخاري في رواية معلقة ووصلها النسائي يعني أن ينفرد بصومه وأخرج البخاري من حديث [ ص: 259 ] جويرية بنت الحرث "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : تريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا ، قال : فأفطري " .

وفي كتاب الشريعة : اعلم أن الجمعة هو آخر أيام الخلق وفيه خلق من خلقه الله على صورته وهو آدم عليه السلام وفيه ظهر كمال أيام الخلق وغايته وبه ظهر أكمل المخلوقين وهو الإنسان وسماه الله تعالى بلسان الشرع يوم الجمعة وزينه الله بزينة الأسماء الإلهية وأقامه خليفة فيها بها فلم يكن في الأيام أكمل من يوم الجمعة والإنسان كامل بربه لأجل الصورة ويوم الجمعة كامل بالإنسان لكونه خلق فيه فخص الأكمل بالأكمل والصوم لا مثل له في العبادات فأشبه من لا مثل له في نفي المثلية ومن لا مثل له قد اتصف بصفتين متقابلتين من وجه واحد وهو الأول والآخر وهو ما بينهما إذ كان هو الموصوف فمن أراد أن يصوم يوم الجمعة يصوم يوما قبله أو يوما بعده ولا يفرد بالصوم كما ذكرناه من الشبه في صيام ذلك اليوم وقيام ليلته إذ كان ليس كمثل يوم فإنه خير يوم طلعت فيه الشمس فما أحكم علم الشرع في كونه حكم أن لا يفرد بالصوم ولا ليلته بالقيام تعظيما لرتبته على سائر الأيام والله أعلم .



(فصل)

ولم يذكر المصنف صوم يوم السبت والأحد واختلف العلماء فيه فمنهم من منع ذلك ومنهم من قال به قال الرافعي : وكره إفراد يوم السبت فإنه يوم اليهود وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " . أهـ .

قلت : حجة المانعين هذا الحديث وقد أخرجه الحاكم والأربعة وابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي من حديث عبد الله بن بسر عن أخته الصماء وهي لها صحبة بزيادة : "فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحى شجرة فليمضغه " وصححه ابن السبكي .

وقال أبو داود : وهذا منسوخ وروى الحاكم عن الزهري أنه كان إذا ذكر له هذا الحديث قال : هذا حديث حمصي ، وعن الأوزاعي قال : ما زلت له كاتما حتى رأيته اشتهر ، وقال أبو داود في السنن قال مالك : هذا الحديث كذب ، قال الحافظ : وقد أعل هذا الحديث بالاضطراب فقيل : هكذا وقيل : عن عبد الله بن بسر من غير ذكر أخته وهذه رواية ابن حبان وليست بعلة قادحة فإنه أيضا صحابي وقيل : عنه عن أبيه بسر وقيل : عنه عن الصماء عن عائشة ، قال النسائي : هذا حديث مضطرب ، قال الحافظ : ويحتمل أن يكون عن عبد الله عن أبيه عن أخته وعنه عن أخته بواسطة وهذه رواية من صححه ورجح عبد الحق الرواية الأولى وتبع في ذلك الدارقطني لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهي روايته وينبئ بقلة ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة ضبطه وليس الأمر هنا كذا بل اختلف فيه أيضا على الراوي عن عبد الله بن بسر وادعى أبو داود نسخه ولا يتبين وجه النصح ، قال الحافظ يمكن أن يكون أخذ من كونه -صلى الله عليه وسلم- كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر ثم في آخر أمره قال : "خالفوهم " فالنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى وصيامه يوافق الحالة الثانية وهذه صورة النسخ . أهـ .

وأما حجة من أجازه ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن كريب : "أن ناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثوني إلى أم سلمة ليسألها عن الأيام التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر لها صياما فقالت : يوم السبت والأحد فرجعت إليهم فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها فقالت : صدق وكان يقول : إنهما يوما عيد المشركين فأنا أريد أن أخالفهم " ، ورواه النسائي والبيهقي وابن حبان .

وروى الترمذي من حديث عائشة قالت : "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس " .

وفي كتاب الشريعة : اعلم أن يوم السبت عندنا هو يوم الأبد الذي لا انقضاء ليومه فليله في جهنم فهي سوداء مظلمة ونهاره لأهل الجنان فالجنة مضيئة مشرقة والجوع مستمر دائم في أهل النار وضده في أهل الجنان فهم يأكلون عن شهوة لا لدفع ألم الجوع ولا عطش فمن كان مشهده القبض والخوف اللذين هما من نعوت جهنم قال بصومه لأن الصوم جنة فيتقى به هذا الأمر الذي أذهله وقد روي في كتاب الترغيب لابن زنجويه مرفوعا : "من صام يوما ابتغاء وجه الله بعده [ ص: 260 ] الله من النار سبعين خريفا " ومثل هذا ومن كان مشهده البسط والرجاء والجنة وعرف أن السبت إنما سمي سبتا لمعنى الراحة فيه وإن لم تكن الراحة عن تعب قال بالفطر لما في الصوم من المشقة وهو يضاد الراحة لأنه ضد ما جبل عليه الإنسان من التغذي وأما من صامه لمراعاة خلاف المشركين فمشهده أن مشهد المشرك الشريك الذي نصبه فلما ولي الشريك أمورهم في زعمهم بما ولوه جعل لهم ذلك اليوم عيد الفرحة بالولاية فأطعمهم فيه وسقاهم وأعني بالشريك صورته القائمة بنفوسهم لا عينه وأما الذي جعلوه شريكا لله فلا يخلو ذلك المجهول أن يرضى بهذا المحال أو لا يرضى فإن رضي كان بمثابتهم كفرعون وغيره وإن لم يرض وهرب إلى الله مما نسبوا إليه سعد هو في نفسه ولحق الشقاء بالناصبين له فمن صامه بهذا الشهود فهو صوم مقابلة ضد لبعد المناسبة بين المشرك والموحد فأراد أن يتصف أيضا في حكمه في ذلك اليوم بصفة المقابل بالصوم الذي يقابل فطرهم وكذلك كان يصومه -صلى الله عليه وسلم- وأما صوم يوم الأحد فلما ذكرناه من هذا المشهد فإنه يوم عيد للنصارى ومن اعتبر فيه أنه أول يوم اعتنى الله فيه بخلق الخلق في أعيانهم صامه شكرا فقابله بعبادة لا مثل لها فاختلف قصد العارفين في صومهم ومن العارفين من صامه لكونه الأحد خاصة والأحد صفة تنزيه للحق والصوم صفة تنزيه فوقعت المناسبة بينهما في صفة التنزيه فصامه لذلك وكل له شرب معلوم فعامله بأشرف الصفات ، والله أعلم .




الخدمات العلمية