الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الحوادث في سنة أربعين من مولده صلى الله عليه وسلم

فيها: قتل كسرى أبرويز النعمان بن المنذر:

فإنه غضب عليه فقتله قبل المبعث بتسعة أشهر .

وكان السبب: أنه كان عند ملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم ، وكانوا يبعثون بتلك الصفة إلى الأرضين ، غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك ، فبدا للملك أن يطلب النساء ، فكتب بتلك الصفة إلى الأرضين فقال زيد بن عدي لأبرويز : عند عبدك النعمان بن المنذر بنات عمه وأهل بيته أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة . قال: فتكتب فيهن .

قال: لا تفعل أيها الملك ، فإن شر شيء في العرب أنهم يتكرمون في أنفسهم عن العجم ، فأنا أكره أن يغيبهن .

فبعث به إليه ، فقال: إن الملك قد احتاج إلى نساء لأهله وولده ، وأراد كرامتك . فقال: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم؟ ويعني بالعين: البقر ، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي ، فسكت [ ص: 333 ] كسرى على ذلك شهرا ، والنعمان يتوقع ويستعد ، حتى أتاه كتاب كسرى أن أقبل فللملك إليك حاجة ، فحمل سلاحه وما قدر عليه ، فلحق بجبل طيئ فأبت طيئ أن تمنعه ، وقالوا: لا حاجة لنا بمعاداة كسرى ولم يقبله غير بني رواحة بن عبس ، فنزل بطن ذي قار ، ثم رأى أنه لا طاقة له بكسرى فرحل إليه ، فلما بلغ كسرى مجيئه قال: اجعلوا على طريقه ألف جارية عذراء في قمص رقاق وغيبوا عنهن الناس إلا الخصيان ، فأقبل ينظر إليهن حتى وقف بين يدي كسرى وبينهما ستر [رقيق] فقال: إن الذي بلغك عني باطل: فقال كسرى ، حسبي ما سمع به الناس .

ثم أمر به فقيد وبعث إلى خانقين ، فلم يزل في السجن حتى وقع طاعون فمات به .

وقيل: بل رماه بين يدي الفيلة فداسته [حتى هلك] .

فقال الشاعر فيه:


لهفي على النعمان من هالك لم نستطع تعداد ما فيه     لم تبكه هند ولا أختها
حرقة واستعجم ناعيه     بين فيول الهند يخبطنه
مختبطا تدني نواحيه

.

وروى عبد الله بن عبد الحميد الدمشقي قال : كان للنعمان بن المنذر يومان : يوم بؤس ويوم كرم ، وكان لا يأخذ أحدا يوم بؤسه إلا قتله ، فأتي برجل يوم [ ص: 334 ] بؤسه ، فقال له ، أما علمت أن هذا يوم بؤسي!؟ قال: بلى . قال : فما حملك على ذلك وأنت تعلم أني أقتلك؟ قال: أيها الملك إن لي ابنة عم ميعادي وإياها اليوم ، فعرضت على نفسي أن أتخلف مع الحياة ، أو أخرج فأنال حاجتي وأقتل فاختارت الخروج مع القتل . قال النعمان: فاذهبوا به فاضربوا عنقه . فقال الرجل: أيها الملك دعني أذهب فأنال حاجتي وشأنك والقتل . قال: ومن يضمن لي أن ترجع إلي .

فالتفت إلى كاتب النعمان فقال: هذا يضمنني . قال: أتضمنه قال: نعم .

قال: إن [لم] يجيء قتلتك . قال: نعم .

فضرب له النعمان أجلا وخلى سبيله ، ثم إن الرجل أتى بعد ذلك فقال له النعمان: ما حملك على المجيء وأنت تعلم أني أقتلك؟ قال ، خفت أن يقال ذهب الوفاء . فالتفت إلى كاتبه وقال له: ما حملك على أن تضمن من لا تعرف وأنت تعلم أنه إن لم يعد قتلتك . قال: أيها الملك ، خفت أن يقال ذهب الكرم . قال النعمان:

وأنا أيضا أخاف أن يقال: ذهب العفو ، خلوا سبيله .

أخبرنا سعيد بن أحمد بن الحسن البنا قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال:

أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثني عبد الرحمن بن عبيد الله بن قريب الأصمعي قال: أخبرنا عمي قال: أخبرنا عامر بن عبد الملك قال:

خرج زياد حتى أتى حرقة ابنة النعمان بن المنذر ، وقد لبست المسوح ، فقال:

حدثيني عن أهلك ، فقالت: أصبحنا وما في العرب أحد إلا يرجونا أو يخافنا ، وأمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا . [ ص: 335 ]

قال القرشي: وحدثني أحمد بن الوليد قال: أخبرنا أحمد بن زيد قال: أخبرنا علي بن حرملة ، عن مالك بن مغول ، عن الشعبي ، عن إسحاق بن طلحة قال:

دخلت على حرقة بنت النعمان ، وقد ترهبت في دير لها بالحيرة ، وهي في ثلاثين جارية لم ير مثل حسنهن . فقلت: يا حرقة ، كيف رأيت عثرات الملك؟ قالت: الذي نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه أمس . ، وأنشدت تقول:


وبتنا نسوس الناس والأمر أمرنا     إذا نحن فيهم سوقة تتنصف .
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها     تقلب أحيانا بنا وتصرف .

وذلك أنه لما هلك النعمان بن المنذر قيل لكسرى: إن ماله وبيته عند هانئ بن مسعود البكري ، فكتب إليه كسرى ليبعث ذلك إليه فأرسل إليه: ليس عندي مال .

فأعاد الرسول: قد بلغني أنه عندك . فقال: إن كان الذي بلغك كاذبا فلا تأخذ بالكذب ، وإن كان صادقا فذلك عندي أمانة ، والحر لا يسلم أمانته .

فعبر كسرى الفرات ودعا إياس بن قبيصة الطائي ، وكان قد أطعمه ثمانين قرية على شط الفرات ، فشاوره فقال: ما ترى؟ فقال: إن تطعني فلا يعلم أحد لأي شيء عبرت ، وقطعت الفرات ، فيرون أن شيئا من أمر العرب قد كرثك ولكن ترجع فتعرض عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى منهم غفلة ، ثم ترسل قبيلة من العجم فيها بعض القبائل التي تلتهم من أعدائهم فيوقعون بهم .

فقال له كسرى : قد بلغني أنهم أخوالك [وأنت] لا تألوهم نصحا .

فقال إياس: رأي الملك أفضل . فبعث الهرمزان في ألفين من خيول الأعاجم ، وبعث ألفا من إياد ، وألفا من بهزى عليهم خالد البهزاني ، فلما بلغ بكر بن وائل خبر القوم أرسلوا إلى قيس بن مسعود بن هانئ بن مسعود ، فقدم ليلا ، فأتى مكانا خفيا [ ص: 336 ] من بطن ذي قار فنزله ، وأرسل إلى هانئ فقال: إنه قد حضر من الأمر ما ترى . فقال له:

أرسل إلي الحلقة وهي عشرة آلاف سكة ، وانثرها في بني شيبان . فقال له هانئ إنها أمانة! فقال قيس: إنكم إن هلكتم فسيأخذون الحلقة وغيرها ، وإن ظهرتم فما أقدرك على أن تأخذها من قومك فأخرجها فنثرها ، وأمرهم فنزلوا من بطن ذي قار بين الجهتين فقدمت الأعاجم عليهم ، وهم مستعدون ، فاقتتلوا ساعة فانهزمت الأعاجم .

وقيل: إن حديث ذي قار كان في سنة سبع من الهجرة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية