الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما صوم الدهر فإنه شامل للكل وزيادة وللسالكين فيه طرق فمنهم من كره ذلك إذ وردت أخبار تدل على كراهته .

والصحيح أنه إنما يكره لشيئين أحدهما : أن لا يفطر في العيدين وأيام التشريق فهو الدهر كله والآخر أن يرغب عن السنة في الإفطار ويجعل الصوم حجرا على نفسه مع أن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه .

فإذا لم يكن شيء من ذلك ورأى صلاح نفسه في صوم الدهر فليفعل ذلك فقد فعله جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم .

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى الأشعري " من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم " وعقد تسعين ومعناه لم يكن له فيها موضع ودونه درجة أخرى وهو صوم نصف الدهر بأن يصوم يوما ويفطر يوما وذلك أشد على النفس وأقوى في قهرها وقد ورد في فضله أخبار كثيرة لأن العبد فيه بين صوم يوم وشكر يوم فقد قال صلى الله عليه وسلم عرضت علي مفاتيح خزائن الدنيا وكنوز الأرض فرددتها وقلت : أجوع يوما وأشبع يوما ، أحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصيام صوم أخي داود كان يصوم ويفطر يوما " ومن ذلك منازلته صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الصوم وهو يقول إني أطيق أكثر من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : صم يوما وأفطر يوما فقال : إني أريد أفضل من ذلك قال صلى الله عليه وسلم لا أفضل من ذلك وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم : ما صام شهرا كاملا قط إلا رمضان بل كان يفطر منه ومن لا يقدر على صوم نصف الدهر فلا بأس بثلثه وهو أن يصوم ويفطر يومين .

وإذا صام ثلاثة من من أول الشهر وثلاثة من الوسط وثلاثة من الآخر فهو ثلث وواقع في الأوقات الفاضلة .

وإن صام الاثنين والخميس والجمعة فهو قريب من الثلث .

وإذا ظهرت أوقات الفضيلة فالكمال في أن يفهم الإنسان معنى الصوم وأن مقصوده تصفية القلب وتفريغ الهم لله عز وجل .

التالي السابق


(وأما صوم الدهر فإنه شامل للكل) مما ذكر في القسمين (وزيادة) عليه (وللسالكين) من أهل الله (فيه طرق فمنهم من كره ذلك إذ وردت أخبار تدل على كراهته) .

قال العراقي : رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو وفي حديث له : "لا صام من صام الأبد " ، ولمسلم من حديث أبي قتادة : "قيل : يا رسول الله كيف بمن صام الدهر ؟ قال : لا صام ولا أفطر " ، وللنسائي نحوه من حديث ابن عمر وعمران بن حصين وعبد الله بن الشخير . أهـ .

قلت : أخرجه مسلم من طريق عطاء بن أبي رباح عن أبي العباس الشاعر عن عبد الله بن عمرو قال : "بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أني أسرد الصوم وأصلي الليل فإما أرسل إلي وإما لقيته ، وفي هذا الحديث : فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : لا صام من صام الأبد ثلاثا " ، وفي بعض روايات البخاري : الدهر بدل الأبد .

وأخرج مسلم من حديث أبي قتادة قال : "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله! كيف نصوم ؟ فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله فلما رأى عمر غضبه قال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه فقال عمر : يا رسول الله كيف من يصوم الدهر كله ؟ قال : لا صام ولا أفطر ، أو قال : لم يصم ولم يفطر " ، وفي لفظ آخر : فسئل عن صيام الدهر وأما حديث عبد الله بن الشخير فأخرجه أحمد وابن حبان بلفظ : "من صام الأبد فلا صام ولا أفطر " ، وعن عمران بن حصين نحوه (والصحيح أنه إنما يكره) صوم الدهر (لشيئين أحدهما : أن لا يفطر في العيدين) الفطر والأضحى (وأيام التشريق) وهي : ثلاثة أيام بعد يوم الأضحى (فهو الدهر كله) وقال المصنف في الوجيز وعلى الجملة صوم الدهر مسنون بشرط الإفطار يومي العيد وأيام التشريق ، قال الرافعي : المسنون يطلق على معنيين : أحدهما : ما واظب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن صوم الدهر ليس مسنونا بهذا المعنى ، والثاني : المندوب وفي كون صوم الدهر بهذه الصفة كلام فإن صاحب التهذيب في آخرين أطلقوا القول بكونه مكروها واحتجوا بما فيه من الأخبار الواردة من نهيه ، وفصل الأكثرون فقالوا : إن كان يخاف منه ضرر أو يفوت به حق فيكره وإلا فلا وحملوا النهي على الحالة الأولى أو على ما إذا لم يفطر العيد وأيام التشريق وقوله : بشرط الإفطار يومي العيد وأيام التشريق ليس المراد منه حقيقة الاشتراط لأن إفطار هذه الأيام يخرج الموجود عن أن يكون صيام الدهر وإذا كان كذلك لم يكن شرطا لاستثنائه فإن استئناف صوم الدهر يستدعي تحققه وإنما المراد منه أن صوم الدهر سوى هذه الأيام مسنون والله أعلم . أهـ . (والآخر أن يرغب عن السنة في الإفطار ويجعل الصوم حجرا على نفسه) أي : منعا (مع أن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) الرخص : [ ص: 261 ] جمع رخصة ، وهي تسهيل الحكم على المكلف لعذر حصل . والعزائم : هي المطلوبات الواجبة أي : فإن أمر الله في الرخصة والعزيمة واحد وهذه الجملة قد رويت مرفوعا من حديث ابن عمر رواه أحمد والبيهقي ، ومن حديث ابن عباس رواه الطبراني في الكبير ، وعن ابن مسعود بنحوه رواه الطبراني أيضا قال ، وقفه عليه أصح ويروى أيضا من حديث ابن عمر بلفظ : "كما يكره أن تؤتى معصيته " رواه أحمد وابن حبان والبيهقي وأبو يعلى والبزار والطبراني ومسند الطبراني حسن (فإذا لم يكن شيء من ذلك ورأى صلاح نفسه في صوم الدهر) بأن لم يخف منه ضرر في نفسه ولا فات حق أحد به (فليفعل) أي : فليصم أبدا (فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم) مما هو معروف عند من طالع سيرتهم ومناقبهم وكذلك من بعدهم من الخالفين لهم ، قال صاحب العوارف : وكان عبد الله بن جابان صام نيفا وخمسين سنة لا يفطر في السفر والحضر فجهد به أصحابه يوما فأفطر فاعتل من ذلك أياما فإذا رأى المريد صلاح قلبه في دوام الصوم فليصم دائما ويدع الإفطار جانبا فهو عون حسن له على ما يريد قلت : وقد كان على هذا القدم شيخنا الورع الزاهد محمد بن شاهين الدمياطي رحمه الله تعالى كان يوالي الصيام ولم ير مفطرا لا سفرا ولا حضرا وكان كثير الزيارات والأسفار لمشاهد الأولياء الكرام ولقد ضمنا وإياه مجلس في ثغر دمياط على شط بحر الملح فقلت له : يا سيدي اليوم عيدنا والعيد لا يصام فيه وجهدنا به حتى أفطر فأخبرني أصحابه أنه اعتل بذلك علة شديدة (وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو موسى الأشعري ) رضي الله عنه ("من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم ") هكذا (وعقد تسعين) .

قال العراقي : رواه أحمد والنسائي في الكبرى وابن حبان وحسنه أبو يعلى الطوسي . أهـ .

قلت : قال ابن حبان أحد رواته : هو محمول على من صام الدهر الذي فيه أيام العيد والتشريق وقال البيهقي وقبله ابن خزيمة : يعني ضيقت عنه فلم يدخلها وفي الطبراني عن ابن الوليد ما يومئ إلى ذلك .

وقال المصنف : (معناه لم يكن له فيها موضع) وهكذا ذكره صاحب العوارف أيضا (ودونه) أي : دون صوم الدهر (درجة أخرى وهو بمنزلة صوم نصف الدهر بأن يصوم يوما ويفطر يوما وذلك أشد على النفس وأقوى في) كسر شهوتها و (قهرها) وتذليلها (وقد ورد في فضل ذلك أخبار) سيأتي ذكرها قريبا (لأن العبد فيه بين صبر يوم) وهو الصيام (وشكر يوم) وهو الإفطار (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عرضت علي مفاتيح خزائن الدنيا و) مفاتيح (كنوز الأرض فرددتها) أي : على الملك الذي جاء بها (وقلت : أجوع يوما وأشبع يوما ، أحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت) .

قال العراقي : رواه الترمذي من حديث أبي أمامة بلفظ : عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، وقال حسن . أهـ .

قلت : وكذلك رواه أحمد وتمامه عندهما بعد قوله : ذهبا "فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " ، وهو من رواية ابن المبارك عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زهر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة ، وقول الترمذي حسن فيه نظر فقد قال العلائي فيه ثلاثة ضعفاء : عبيد الله بن زهر ، وعلي بن زيد ، والقاسم ، وفي الحديث جمع القربتين : الصبر ، والشكر ، وهما صفتا المؤمن الكامل المخلص ، وفيه دلالة على أن ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من ضيق العيش والتقلل فيه لم يكن اضطراريا بل اختياريا مع إمكان التوسع (وقال -صلى الله عليه وسلم- : "أفضل الصيام صوم أخي داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ") رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمر وقال الترمذي : حسن صحيح ، وزادوا بعده : "وكان لا يفر إذا لاقى " ، وفيه إشارة إلى أنه لأجل تقويه بالفطر كان لا يفر من عدوه إذا لاقاه للقتال فلو أنه سرد الصوم ربما أضعف قوته وانتهك جسمه ولم يقدر على قتال الأبطال فصوم يوم وفطر يوم جمع بين القربتين وقيام بالوظيفتين والمراد بالأخوة هنا في النبوة والرسالة .

وأخرجه مسلم من حديثه وفيه قال -صلى الله عليه وسلم- : "صم يوما وأفطر يوما وذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام " .

وفي لفظ له أيضا قال : "نعم صوم داود نبي الله -عليه السلام- فإنه كان أعبد الناس قال : قلت : يا نبي الله وما صوم داود ؟ قال : كان يصوم يوما ويفطر [ ص: 262 ] يوما " ، وفي لفظ آخر من حديثه : "قلت : وما صوم نبي الله داود ؟ قال : نصف الدهر " .

وفي لفظ آخر له من طريق عطاء عن ابن العباس الشاعر عنه في هذا الحديث "قال : نعم صيام داود عليه السلام ، قال : وكيف كان داود يصوم يا نبي الله ؟ قال : كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى " .

وأخرجه أيضا من حديثه مرفوعا : "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما " .

وفي لفظ آخر رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عمه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم نصف الدهر " .

وأخرج بإسناد آخر عنه أيضا مرفوعا : "لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر صيام يوم وإفطار يوم " .

وعنه أيضا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صم أفضل الصيام عند الله صوم داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما " ، وأخرجه البخاري بهذا اللفظ وفي لفظ له قال له : "صم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه " ، وله ألفاظ أخر والمعنى واحد .

وفي كتاب الشريعة : أفضل الصيام وأعدله صوم في حقك وصوم يوم في حق ربك وبينهما فطر يوم فهو أعظم مجاهدة على النفس وأعدل في الحكم ويحصل له في مثل هذا الصوم حال الصلاة كحالة الضوء من نور الشمس فإن الصلاة نور والصبر ضياء وهو الصوم والصلاة عبادة مقسومة بين رب وعبد وكذلك صوم داود صوم يوم وفطر يوم فتجمع بين ما هو لك وما هو لربك (ومن ذلك منازلته -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو) بن العاص أبو محمد ويقال أبو عبد الرحمن -رضي الله عنهما- وكان من علماء الصحابة ومن العباد مات بمصر وقيل : بالطائف سنة 65 (في الصوم وهو يقول إني أريد أفضل من ذلك فقال -صلى الله عليه وسلم- : صم يوما وأفطر يوما فقال : إني أريد أفضل من ذلك فقال -صلى الله عليه وسلم- : لا أفضل من ذلك) رواه البخاري ومسلم من حديثه .

ففي سياق مسلم من حديثه قال : "أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يقول : لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت فقال -صلى الله عليه وسلم- : فإنك لا تستطيع ذلك صم وأفطر وقم ونم صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر قال : قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، قال : صم يوما وأفطر يومين قال قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله ، قال : صم يوما وأفطر يوما وذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام قال : قلت : فإني أطيق أفضل من ذلك ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : لا أفضل من ذلك " .

وعنه : قال : "كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة قال : فإما ذكرت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإما أرسل إلي فأتيته فقال : ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ فقلت : يا نبي الله ولم أرد بذلك إلا الخير . . . " ، فساق الحديث وفيه قال : قلت : يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك .

وفي لفظ آخر له عنه : "قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اقرأ القرآن في كل شهر قال : إني أجد قوة قال : فاقرأ في سبع ولا تزد على ذلك " ، ومن طريق عطاء عن ابن عباس الشاعر عنه : "قال : بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أني أصوم أسرد الصوم وأصلي الليل فإما أرسل إلي وإما لقيته فقال لي : ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر وتصلي الليل فلا تفعل فإن لعينك حظا ولنفسك حظا ولأهلك حظا فصم وأفطر وصل ونم وصم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر تسعة قال : إني أجدني أقوى يا نبي الله ، قال : فصم صيام داود " .

وعنه أيضا في هذا الحديث قال : "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : يا عبد الله بن عمرو إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت لا صام من صام الأبد صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الشهر قلت : فإني أطيق أكثر من ذلك قال : فصم صوم داود " ، وفي لفظ آخر من حديثه قال : "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر له صومي فدخل علي فألقيت إليه وسادة من أدم حشوها ليف فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه فقال لي : أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام ؟ قلت : يا رسول الله ، قال : خمسة ، قلت : يا رسول الله قال : سبعة قلت : يا رسول الله قال : تسعة قلت : يا رسول الله قال : أحد عشر قلت : يا رسول الله فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : لا صوم فوق صوم داود " .

وفي سياق البخاري من حديثه "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : كيف تصوم ؟ قال : كل يوم ، قال : كيف تختم ؟ قال : كل ليلة ، قال : [ ص: 263 ] صم كل شهر ثلاثة أيام واقرأ القرآن في كل شهر ، قال : أطيق أكثر من ذلك ، قال : صم ثلاثة أيام في الجمعة واقرأ القرآن في كل شهر ، قال : أطيق أكثر من ذلك ، قال : أفطر يومين وصم يوما ، قال : أطيق أكثر من ذلك ، قال : صم أفضل الصوم . . . " الحديث .

(وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- ما صام شهرا كاملا قط إلا رمضان ) .

قال العراقي : أخرجه من حديث عائشة . أهـ .

قلت : هو سياق حديث ابن عباس عند مسلم قال : "ما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا قط غير رمضان " وفي طريق أخرى : "شهرا متتابعا منذ قدم المدينة " وأخرجه البخاري ولم يقل : منذ قدم المدينة .

وأما حديث عائشة فلفظه عند مسلم عن عبد الله بن شقيق : "قلت : لعائشة هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا معلوما سوى رمضان ؟ قالت : والله إن صام شهرا معلوما سوى رمضان حتى مضى لوجهه ولا أفطر حتى يصيب منه " ، وفي لفظ آخر : "أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا كله ؟ قالت : ما علمته صام شهرا كله إلا رمضان . . . " الحديث .

وفي لفظ آخر : "قالت : وما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان " (بل كان يفطر في غيره) أي : غير رمضان (ومن كان لا يقدر على صوم نصف الدهر) الذي هو صوم يوم وفطر يوم (فلا بأس بثلثه وذلك بأن يصوم يوما ويفطر يومين) وقد اختاره بعض الصالحين وقد جاء ذلك في حديث عبد الله بن عمرو وعند البخاري : قال : "أفطر يومين وصم يوما " ، وعند مسلم من حديث أبي قتادة "قال عمر : كيف من يصوم يوما ويفطر يومين وددت أني طوقت ذلك " (فإن صام ثلاثة من أول الشهر وثلاثة من وسطه وثلاثة من آخره فهو ثلث وواقع في الأوقات الفاضلة) التي هي الغرر والبيض والسرر .

ومنهم من اختار أن يصوم يومين ويفطر يوما وقد جاء ذكره في حديث أبي قتادة عند مسلم "قال عمر : كيف يصوم يومين ويفطر يوما قال -صلى الله عليه وسلم- : ويطيق ذلك أحد ؟! " وقد اختاره بعض الصالحين .

وفي كتاب الشريعة : ولما رأى بعضهم أن حق الله أحق لم ير التساوي بين ما هو لله وما هو للعبد فصام يومين وأفطر يوما وهذا كان صوم مريم -عليها السلام- فإنها رأت أن للرجال عليها درجة فقالت : عسى ما جعل هذا اليوم الثاني في الصوم في مقابلة تلك الدرجة وكذلك كان فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد لها بالكمال كما شهد به للرجال ولما رأت أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد فقالت : صوم اليومين مني بمنزلة اليوم الواحد من الرجل الواحد فقامت مقام الرجال بذلك فساوت داود في الفضيلة في الصوم فهكذا من غلبت عليه نفسه فقد غلبت عليه أنوثته فينبغي أن يعاملها بمثل ما عاملت به مريم نفسها وهذا إشارة حسية لمن فهمها فإنه إذا كان الكمال لها لحوقها بالرجال فالأكمل لها لحوقها بربها كعيسى ولدها فإنه كان يصوم الدهر ولا يفطر ، ويقوم الليل فلا ينام ، فكان ظاهرا باسم الدهر في نهاره ، وباسم الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم في ليله ولذا أثرت هذه الصفة من خلف حجاب الغيب في قلوب المحجوبين من أهل الكثف حتى قالوا فيه ما قالوا (وإن صام الاثنين والخميس والجمعة) من كل شهر (فذلك أيضا قريب من الثلث) وفي نسخة فهو قريب من الثلث وفي بعض النسخ زيادة وقريب من النصف أي : باعتبار تكرير تلك الأيام في كل جمعة من الشهر إذ لو أهل الشهر بالاثنين أو الأربعاء أو الجمعة أو الأحد كانت الأيام في الشهر ثلاثة عشر يوما ولو أهل بالثلاثاء كانت إحدى عشر يوما ولو أهل بالخميس كانت أربعة عشر يوما ولو أهل بالسبت كانت اثني عشر يوما وهذا إذا كان الشهر كاملا فإن كان ناقصا فبحسابه (وإذ قد ظهرت أوقات الفضيلة) بما تقدم من الأخبار (فالكمال في أن يفهم الإنسان معنى الصوم) ما هو (وأن مقصوده) منه (تصفية القلب) عن الخطرات والوساوس (وتفريغ الهم) المشتت إلى أنحاء مختلفة (لله عز وجل) بحيث لا يخطر بباله ما يقطع بينه وبينه .



(تنبيه) .

حديث عائشة -رضي الله عنها- الذي قدمنا ذكره من تخريج الترمذي وهو "قالت : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس " دال على استيعاب الأيام السبعة بالصيام وعلمنا منه أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يتلبس بعبادة الصوم في كل يوم إما امتنانا منه على ذلك [ ص: 264 ] اليوم فإن الأيام يفتخر بعضها على بعض بما يوقع العبد فيها من الأعمال للقربة إلى الله من حيث إنها ظرف له فيريد العبد الصالح أن يجعل لكل يوم من أيام الجمعة وأيام الشهر وأيام السنة جميع ما يقدر عليه من أفعال البر حتى يحمده كل يوم ويتجمل به عند الله ويشهد له فإذا لم يقدر في اليوم الواحد أن يجمع جميع الخيرات فيعمل فيه ما قدر عليه فإذا عاد عليه من الجمعة الأخرى عمل فيه ما فاته في الجمعة الأولى حتى يستوي فيه جميع الخيرات التي يقدر عليها وهكذا في أيام الشهر وأيام السنة .

واعلم أن الشهور تتفاضل أيامها بحسب ما تنسب إليه كما تتفاضل ساعات النهار والليل بحسب ما تنسب إليه فيأخذ الليل من النهار من ساعاته ويأخذ النهار من الليل والتوقيت من حيث حركة اليوم الذي يعم الليل والنهار كذلك أيام الشهور تتعين بقطع الدراري في منازل الفلك الأقصى لا في الكواكب الثابتة التي تسمى في العرف منازل القمر فللقمر أيام معلومة في قطع الفلك ولعطارد أيام أخر وللزهرة كذلك وللشمس كذلك وللمريخ كذلك وللمشترى كذلك ولزحل كذلك فينبغي للعبد أن يراعي هذا كله في أعماله فإن له من العمر بحيث أن يفي بذلك فإن أكبر هذه الشهور لا يكون أكبر الأعمار من نحو ثلاثين سنة لا غير وأما شهور الكواكب الثابتة في قطعها في فلك البروج فلا يحتاج إليه لأن الأعمار تقصر عن ذلك .




الخدمات العلمية