الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله هذا ‌‌‌مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة ، وبين إظهار احتياجهم إليه ، فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه .

والجملة معطوفة على جملة ذلكم الله ربكم له الملك الآية ؛ لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر ، وعلى أن الكفر به قبيح ، وتتضمن الاستدلال على وحدانية إلهيته بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجأوا إليه وحده ، وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء .

فالتعريف في الإنسان تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإنسان ؛ وهم أهل الشرك خاصة لأن قوله وجعل لله أندادا لا يتفق مع حال المؤمنين .

والقول بأن المراد : إنسان معين وأنه عتبة بن ربيعة ، أو أبو جهل ، خروج عن مهيع الكلام ، وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس . وذكر الإنسان إظهار في مقام الإضمار لأن المقصود به المخاطبون بقوله خلقكم من نفس واحدة إلى قوله فينبئكم بما كنتم تعملون فكان مقتضى الظاهر أن يقال : وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم إلخ ؛ فعدل إلى الإظهار لما في معنى الإنسان من مراعاة ما في [ ص: 343 ] الإنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمه الله بالتوفيق كقوله تعالى ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا وقوله أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه وغير ذلك ولأن في اسم الإنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله نسي ما كان يدعو إليه من قبل .

وتقدم نظير لهذه الآية في قوله وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه في سورة الروم .

والتخويل : الإعطاء والتمليك دون قصد عوض . وعينه واو لا محالة . وهو مشتق من الخول بفتحتين وهو اسم للعبيد والخدم ، ولا التفات إلى فعل خال بمعنى : افتخر ، فتلك مادة أخرى غير ما اشتق منه فعل خول .

والنسيان : ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقا .

وماصدق " ما " في قوله نسي ما كان يدعو إليه من قبل هو الضر ، أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه ، أي : إلى كشفه عنه ، ومفعول يدعو محذوف دل عليه قوله دعا ربه وضمير إليه عائد إلى " ما " ، أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه ، أي : إلى كشفه .

ويجوز أن يكون " ما " صادقا على الدعاء كما تدل عليه الصلة ويكون الضمير المجرور بـ " إلى " عائدا إلى " ربه " ، أي : نسي الدعاء ، وضمن الدعاء معنى الابتهال والتضرع فعدي بحرف " إلى " .

وعائد الصلة محذوف دل عليه فعل الصلة تفاديا من تكرر الضمائر . والمعنى : نسي عبادة الله والابتهال إليه .

والأنداد : جمع ند ، بكسر النون ، وهو الكفء ، أي : وزاد على نسيان ربه فجعل له شركاء .

واللام في قوله ليضل عن سبيله لام العاقبة ، أي : لام التعليل المجازي لأن الإضلال لما كان نتيجة الجعل جاز تعليل الجعل به كأنه هو العلة للجاعل . والمعنى : وجعل لله أندادا فضل عن سبيل الله .

[ ص: 344 ] وقرأ الجمهور " ليضل " بضم الياء ، أي : ليضل الناس بعد أن أضل نفسه إذ لا يضل الناس إلا ضال . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ، بفتح الياء ، أي : ليضل هو ، أي الجاعل وهو إذا ضل أضل الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية