الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ذكر رحمة ربك عبده زكريا ( 2 ) إذ نادى ربه نداء خفيا ( 3 ) قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ( 4 ) )

اختلف أهل العربية في الرافع للذكر ، والناصب للعبد ، فقال بعض نحويي البصرة في معنى ذلك كأنه قال : مما نقص عليك ذكر رحمة ربك عبده ، وانتصب العبد بالرحمة كما تقول : ذكر ضرب زيد عمرا . وقال بعض نحويي الكوفة : رفعت الذكر بكهيعص ، وإن شئت أضمرت هذا ذكر رحمة ربك ، قال : والمعنى ذكر ربك عبده برحمته تقديم وتأخير .

قال أبو جعفر : والقول الذي هو الصواب عندي في ذلك أن يقال : الذكر مرفوع بمضمر محذوف ، وهو هذا كما فعل ذلك في غيرها من السور ، وذلك كقول الله : ( براءة من الله ورسوله ) وكقوله : ( سورة أنزلناها ) ونحو ذلك . والعبد منصوب بالرحمة ، وزكريا في موضع نصب ، لأنه بيان عن العبد ، فتأويل الكلام : هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا .

وقوله : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) يقول حين دعا ربه ، وسأله بنداء خفي ، يعنى : وهو مستسر بدعائه ومسألته إياه ما سأل ، كراهة منه للرياء .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) أي سرا ، وإن الله يعلم القلب النقي ، ويسمع الصوت الخفي .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، [ ص: 143 ] قوله ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) قال : لا يريد رياء .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : رغب زكريا في الولد ، فقام فصلى ، ثم دعا ربه سرا ، فقال : ( رب إني وهن العظم مني ) . . . . إلى ( واجعله رب رضيا ) وقوله : ( قال رب إني وهن العظم مني ) يقول تعالى ذكره ، فكان نداؤه الخفي الذي نادى به ربه أن قال : ( رب إني وهن العظم مني ) يعني بقوله ( وهن ) ضعف ورق من الكبر .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( قال رب إني وهن العظم مني ) أي ضعف العظم مني .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وهن العظم مني ) قال : نحل العظم . قال عبد الرزاق ، قال : الثوري : وبلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة .

وقد اختلف أهل العربية في وجه النصب في الشيب ، فقال بعض نحويي البصرة : نصب على المصدر من معنى الكلام ، كأنه حين قال : اشتعل ، قال : شاب ، فقال : شيبا على المصدر . قال : وليس هو في معنى : تفقأت شحما وامتلأت ماء ، لأن ذلك ليس بمصدر . وقال غيره : نصب الشيب على التفسير ، لأنه يقال : اشتعل شيب رأسي ، واشتعل رأسي شيبا ، كما يقال : تفقأت شحما ، وتفقأ شحمي .

وقوله : ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) يقول : ولم أشق يا رب بدعائك ، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك ، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك .

كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قوله : ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) يقول : قد كنت تعرفني الإجابة فيما مضى .

التالي السابق


الخدمات العلمية