الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 395 ] كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .

استئناف بياني لأن ما ذكر قبله من مصير المشركين إلى سوء العذاب يوم القيامة ويوم يقال للظالمين هم وأمثالهم : ذوقوا ما كنتم تكسبون ، يثير في نفوس المؤمنين سؤالا عن تمتع المشركين بالنعمة في الدنيا ويتمنون أن يعجل لهم العذاب فكان جوابا عن ذلك قوله كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون أي : هم مظنة أن يأتيهم العذاب كما أتى العذاب الذين من قبلهم ، إذ أتاهم العذاب في الدنيا بدون إنذار ؛ غير مترقبين مجيئه ، على نحو قوله تعالى فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم فكان عذاب الدنيا خزيا يجزي به الله من يشاء من الظالمين ، وأما عذاب الآخرة فجزاء يجزي به الله الظالمين على ظلمهم .

والفاء في قوله " فأتاهم العذاب " دالة على تسبب التكذيب في إتيان العذاب إليهم فلما ساواهم مشركو العرب في تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان سبب حلول العذاب بأولئك موجودا فيهم فهو منذر بأنهم يحل بهم مثل ما حل بأولئك .

وضمير " من قبلهم " عائد على من يتقي بوجهه سوء العذاب باعتبار أن معنى " من " جمع . وفي هذا تعريض بإنذار المشركين بعذاب يحل بهم في الدنيا وهو عذاب السيف الذي أخزاهم الله به يوم بدر . فالمراد بالعذاب الذي أتى الذين من قبلهم : هو عذاب الدنيا ، لأنه الذي يوصف بالإتيان من حيث لا يشعرون .

و " حيث " ظرف مكان ، أي : جاء العذاب الذين من قبلهم من مكان لا يشعرون به ، فقوم أتاهم من جهة السماء بالصواعق ، وقوم أتاهم من الجو مثل ريح عاد ، قال تعالى فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم وقوم أتاهم من تحتهم بالزلازل [ ص: 396 ] والخسف مثل قوم لوط ، وقوم أتاهم من نبع الماء من الأرض مثل قوم نوح ، وقوم عم عليهم البحر مثل قوم فرعون .

وكان العذاب الذي أصاب كفار قريش لم يخطر لهم ببال ، وهو قطع السيوف رقابهم وهم في عزة من قومهم وحرمة عند قبائل العرب ما كانوا يحسبون أيديا تقطع رقابهم كحال أبي جهل وهو في الغرغرة يوم بدر حين قال له ابن مسعود : أنت أبا جهل ؟ فقال " وهل أعمد من رجل قتله قومه " .

واستعارة الإذاقة لإهانة الخزي تخييلية وهي من تشبيه المعقول بالمحسوس .

وعطف عليه ولعذاب الآخرة أكبر للاحتراس ، أي : أن عذاب الآخرة هو الجزاء ، وأما عذاب الدنيا فقد يصيب الله به بعض الظلمة زيادة خزي لهم .

وقوله " لو كانوا يعلمون " جملة معترضة في آخر الكلام .

ومفعول " يعلمون " دل عليه الكلام المتقدم ، أي : لو كان هؤلاء يعلمون أن الله أذاق الآخرين الخزي في الدنيا بسبب تكذيبهم الرسل ، وأن الله أعد لهم عذابا في الآخرة هو أشد .

وضمير " يعلمون " عائد إلى ما عاد إليه ضمير " قبلهم " .

وجواب ( لو ) محذوف دل عليه التعريض بالوعيد في قوله كذب الذين من قبلهم الآية ، تقديره : لو كانوا يعلمون أن ما حل بهم سببه تكذيبهم رسلهم كما كذب هؤلاء محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

ووصف عذاب الآخرة بـ " أكبر " بمعنى : أشد فهو أشد كيفية من عذاب الدنيا وأشد كمية لأنه أبدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية