الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون .

( أم ) منقطعة وهي للإضراب الانتقالي انتقالا من تشنيع إشراكهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم ، ذلك أنهم لما دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله [ ص: 27 ] شركاء تمحلوا تأويلا لشركهم فقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى كما حكي عنهم في أول هذه السورة ، فلما استوفيت الحجج على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم منه ومعذرتهم .

والاستفهام الذي تشعر به أم في جميع مواقعها هو هنا للإنكار بمعنى أن تأويلهم وعذرهم منكر كما كان المعتذر عنه منكرا فلم يقضوا بهذه المعذرة وطرا .

وقد تقدم في أول السورة بيان مرادهم بكونهم شفعاء .

وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم مقالة تقطع بهتانهم وهي ( أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ) .

فالواو في ( أولو كانوا ) عاطفة كلام المجيب على كلامهم وهو من قبيل ما سمي بعطف التلقين في قوله تعالى قال ومن ذريتي في سورة البقرة ، ولك أن تجعل الواو للحال كما هو المختار في نظيره . وتقدم في قوله ولو افتدى به في سورة آل عمران . وصاحب الحال مقدر دل عليه ما قبله من قوله اتخذوا من دون الله شفعاء ، والتقدير : أيشفعون لو كانوا لا يملكون شيئا .

والظاهر أن حكم تصدير الاستفهام قبل واو الحال كحكم تصديره قبل واو العطف .

وأفاد تنكير شيئا في سياق النفي عموم كل ما يملك فيدخل في عمومه جميع أنواع الشفاعة . ولما كانت الشفاعة أمرا معنويا كان معنى ملكها تحصيل إجابتها ، والكلام تهكم إذ كيف يشفع من لا يعقل فإنه لعدم عقله لا يتصور خطور معنى الشفاعة عنده فضلا عن أن تتوجه إرادته إلى الاستشفاع فاتخاذهم شفعاء من الحماقة .

ولما نفى أن يكون لأصنامهم شيء من الشفاعة في عموم نفي ملك شيء من الموجودات عن الأصنام ، قوبل بقوله لله الشفاعة أي الشفاعة كلها لله . وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم ليعلموا أن لا يملك الشفاعة إلا الله ، أي هو مالك إجابة شفاعة الشفعاء الحق .

[ ص: 28 ] وتقديم الخبر المجرور وهو لله على المبتدأ لإفادة الحصر . واللام للملك ، أي قصر ملك الشفاعة على الله تعالى لا يملك أحد الشفاعة عنده .

و ( جميعا ) حال من الشفاعة مفيدة للاستغراق ، أي لا يشذ جزئي من جزئيات حقيقة الشفاعة عن كونه ملكا لله وقد تأكد بلازم هذه لحال ما دل عليه الحصر من انتفاء أن يكون شيء من الشفاعة لغير الله .

وجملة له ملك السماوات والأرض لتعميم انفراد الله بالتصرف في السماوات والأرض الشامل للتصرف في مؤاخذة المخلوقات وتسيير أمورهم فموقعها موقع التذييل المفيد لتقرير الجملة التي قبله وزيادة . والمراد الملك بالتصرف بالخلق وتصريف أحوال العالمين ومن فيهما ، فإذا كان ذلك الملك له لا يستطيع أحد صرفه عن أمر أراد وقوعه إلى ضد ذلك الأمر في مدة وجود السماوات والأرض ، وهذا إبطال لأن تكون لآلهتهم شفاعة لهم في أحوالهم في الدنيا .

وعطف عليه ( ثم إليه ترجعون ) للإشارة إلى إثبات البعث وإلى أنه لا يشفع أحد عند الله بعد الحشر إلا من أذنه الله بذلك .

و ( ثم ) للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل ، ذلك لأن مضمون ( إليه ترجعون ) أن لله ملك الآخرة كما كان له ملك الدنيا وملك الآخرة أعظم لسعة مملوكاته وبقائها .

وتقديم ( إليه ) على ( ترجعون ) للاهتمام والتقوي وللرعاية على الفاصلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية