الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون حتى أعمل بما يقتضيه الحال، وهذا ظاهر في أنها لم تثق بقبوله - عليه السلام - هديتها.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال، وينبغي أن نتبعه على دينه، والهدية اسم لما يهدى كالعطية اسم لما يعطى، والتنوين فيها للتعظيم، و(ناظرة) عطف على (مرسلة) و(بم) متعلق بـ(يرجع) ووقع للحوفي أنه متعلق بـ(ناظرة) وهو وهم فاحش كما في البحر، والنظر معلق، والجملة في موضع المفعول به له، والجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق؛ للإيذان بأنها مزمعة على رأيها، لا يلويها عنه صارف، ولا يثنيها عاطف.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في هديتها، فعن ابن عباس أنها كانت مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان [ ص: 199 ] لباس الجواري، وجعلت في أيديهم أساور الذهب، وفي أعناقهم أطواق الذهب، وفي آذانهم أقرطة وشنوفا مرصعة بأنواع الجواهر، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة، والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس سرج من الذهب، مرصع بالجوهر، وعليه أغشية الديباج، وبعثت إليه لبنات من ذهب، ولبنات من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود، وعمدت إلى حق فجعلت فيه درة عذراء وخرزة جزع معوجة الثقب.

                                                                                                                                                                                                                                      ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ، وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معه كتابا تذكر فيه الهدية، وقالت فيه: إن كنت نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه، ثم قالت للرسول: فإن أخبر فقل له: اثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جن، وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك، فلا يهولنك منظره؛ فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي، فتفهم منه قوله ورد الجواب.

                                                                                                                                                                                                                                      فانطلق الرجل بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر، فأمر - عليه السلام - الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ففعلوا، وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسع فراسخ، وأن يفرشوا فيه لبن الذهب والفضة، وأن يخلوا قدر تلك اللبنات التي معهم، وأن يعملوا حول الميدان حائطا مشرفا من الذهب والفضة، ففعلوا، ثم قال: أي دواب البر والبحر أحسن؟ فقالوا: يا نبي الله ما رأينا أحسن من دواب في البحر يقال لها كذا وكذا، مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواص، قال: علي بها الساعة، فأتوه بها قال: شدوها عن يمين الميدان وشماله، وقال للجن: علي بأولادكم، فاجتمع منهم خلق كثير، فأقامهم على يمين الميدان وعلى شماله، وأمر الجن والإنس والشياطين والوحوش والسباع والطير، ثم قعد في مجلسه على سريره، ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله، وأمر جميع الإنس والجن والشياطين والوحوش والسباع والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان، ونظروا إلى ملك سليمان - عليه السلام - ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تصاغرت إليهم أنفسهم، وخبؤوا ما كان معهم من الهدايا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنهم لما رأوا ذلك الموضع الخالي من اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك، فوضعوا ما معهم من اللبن فيه، ولما نظروا إلى الشياطين هالهم ما رأوا، وفزعوا، فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم، وكانوا يمرون على كراديس الجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فأقبل عليهم بوجه طلق، وتلقاهم ملقى حسنا، وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا فيه، وأعطاه الكتاب فنظر فيه، وقال: أين الحق؟ فأتي به، فحركه فجاء جبريل - عليه السلام - فأخبره بما فيه، فقال لهم: إن فيه درة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب، قال الرسول: صدقت، فأثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة، فقال سليمان - عليه السلام - من لي بثقبها؟ وسأل الجن والإنس فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا: نرسل إلى الأرضة، فلما جاءت أخذت شعرة بفيها ونفذت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: تصير رزقي في الشجر، فقال: لك ذلك، ثم قال: من لهذه الخرزة؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبي الله، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال: ما حاجتك؟ قالت: يكون رزقي في الفواكه، فقال: لك ذلك، ثم ميز [ ص: 200 ] بين الغلمان والجواري، أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب بها الأخرى وتغسل وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه ويضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعديها، والغلام على ظاهره، ثم رد سليمان - عليه السلام – الهدية، كما أخبر الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير، وقالت: أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها، وبقدح ماء وقالت: تملؤه ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء، فأرسل - عليه السلام - العصا إلى الهواء وقال، أي الطرفين سبق إلى الأرض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها، وقال: هذا ليس من ماء الأرض ولا من ماء السماء، اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وكل ذلك أخبار لا يدرى صحتها ولا كذبها، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه، والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية