الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون قوله : وما أرسلنا في قرية من نبي لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم ، وهم المذكورون سابقا أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها : أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبي من الأنبياء ، وفي الكلام محذوف أي فكذب أهلها إلا أخذناهم ، والاستثناء مفرغ : أي ما أرسلنا في حال من الأحوال إلا في حال أخذنا أهلها فمحل أخذنا النصب ، والبأساء : البؤس والفقر ، والضراء : الضر ، وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء لعلهم يضرعون أي لكي يتضرعوا ويتذللوا ، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ثم بدلنا معطوف على أخذنا : أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدلناهم مكان السيئة التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان الحسنة أي الخصلة الحسنة : فصاروا في خير وسعة وأمن حتى عفوا يقال : عفا كثر ، وعفا درس ، فهو من أسماء الأضداد ، والمراد هنا : أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم : أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة حتى كثروا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة : أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء ، ثم من الرخاء والخصب من بعد هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله ، فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه ، ومعناهم : أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف ، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختبارا لما عندهم ، وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوهم ما لا يخفى ، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال : فأخذناهم بغتة أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال والحال أنهم لا يشعرون بذلك ولا يترقبونه .

                                                                                                                                                                                                                                      واللام في القرى للعهد : أي ولو أن أهل القرى التي أرسلنا إليهم رسلنا آمنوا بالرسل المرسلين إليهم واتقوا ما صمموا عليه من الكفر ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض أي يسرنا لهم خير السماء والأرض كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها ، قيل : المراد بخير السماء : المطر ، وخير الأرض : النبات ، والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك ، ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس ، والمراد : لو أن أهل القرى أين كانوا وفي أي بلاد سكنوا آمنوا واتقوا إلى آخر الآية ولكن كذبوا بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا فأخذناهم بالعذاب بسبب ما كانوا يكسبون من الذنوب الموجبة لعذابهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستفهام في أفأمن أهل القرى للتقريع والتوبيخ ، وأهل القرى هم أهل القرى المذكورة قبله ، والفاء للعطف ، وهو مثل أفحكم الجاهلية يبغون ( المائدة : 50 ) ، وقيل : المراد بالقرى مكة وما حولها لتكذيبهم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والحمل على العموم أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أن يأتيهم بأسنا بياتا أي وقت بيات ، وهو الليل على أنه منصوب على الظرفية ، ويجوز أن يكون مصدرا : بمعنى تبييتا ، أو مصدرا في موضع الحال : أي مبيتين ، وجملة وهم نائمون في محل نصب على الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستفهام في أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون كالاستفهام الذي قبله ، والضحى ضحوة النهار ، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ ابن عامر والحرميان أوأمن " بإسكان الواو وقرأ الباقون بفتحها ، وجملة وهم يلعبون [ ص: 489 ] في محل نصب على الحال : أي يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستفهام في أفأمنوا مكر الله للتقريع والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم ، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم ، ثم بين حال من أمن مكر الله ، فقال : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أي الذين أفرطوا في الخسران ، ووقعوا في وعيده الشديد ، وقيل : مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة والأولى حمله على ما هو أعم من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرئ " نهد " بالنون وبالتحتية فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه ومفعول الفعل أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي أن الشأن هو هذا ، وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل يهد هو أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم ، والهداية هنا بمعنى التبيين ، ولهذا عديت باللام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ونطبع على قلوبهم أي ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف ولا يصح عطفه على أصبنا لأنهم ممن طبع الله على قلوبهم لعدم قبولهم للإيمان ، وقيل : هو معطوف على فعل مقدر دل عليه الكلام ، كأنه قيل : يغفلون عن الهداية ونطبع ، وقيل : معطوف على يرثون ، قوله : فهم لا يسمعون جواب لو : أي صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم والطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ والإعذار والإنذار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة قال : مكان الشدة الرخاء حتى عفوا قال : كثروا وكثرت أموالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : حتى عفوا قال : جموا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : قد مس آباءنا الضراء والسراء قال : قالوا : قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئا فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : ولو أن أهل القرى آمنوا قال : بما أنزل الله واتقوا قال : ما حرمه الله لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض يقول : أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق معاذ بن رفاعة عن موسى الطائفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكرموا الخبز فإن الله أنزله من بركات السماء وأخرجه من بركات الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البزار ، والطبراني ، قال السيوطي : بسند ضعيف عن عبد الله بن أم حرام قال : صليت القبلتين مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : أكرموا الخبز فإن الله أنزله من بركات السماء وسخر له بركات الأرض ، ومن تتبع ما يسقط من السفرة غفر له .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، عن الحسن قال : كان أهل قرية أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : أولم يهد قال : أولم نبين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي ، في قوله : للذين يرثون الأرض من بعد أهلها قال : المشركون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية