الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 121 ] ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون )

                                                          * * *

                                                          بعد أن بين سبحانه وتعالى حال المتقين ثم حال الكافرين ومآلهم ، بين الله سبحانه وتعالى حال الحائرين بين الحق والباطل ، وبين العداوة وإظهار المودة ، وهم المنافقون . وقد ذكرهم سبحانه وتعالت كلماته في ثلاث عشرة آية ، لتنوع أعمالهم ، وتغير أحوالهم ، بسبب حيرتهم ، ونفاقهم ، وأوهامهم المضلة .

                                                          ابتدأ سبحانه وتعالى بيان حالهم . يقول تعالى عنهم : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين نقل سبحانه وتعالى قولهم بقوله : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر .

                                                          الناس أصلها الأناس ، ويعبر بالناس في هذا بأنهم ليس لهم من الصفات إلا الوصف الآدمي الأصلي وهو أنهم ناس من الناس ، فلا يقال متقون ، ولا يقال مؤمنون ، ويقال كافرون فقط ; لأن لهم لونا اختصوا به ، وهو أنهم كافرون ، أما هؤلاء المنافقون ، فإنهم حائرون ، فلا يعبر عنهم إلا بأنهم ناس ، لا دين لهم ولا خلق ، وليس معنى ذلك أنهم خير حالا من الكافرين ، بل هم أشد كفرا ، وأبعد إيغالا في الشر ، وأكثر فسادا ، وإذا كان في الكافر وضوح ، فهو يعلنه ، فأولئك كافرون يبهمون ويجبنون ، ولا يصارحون .

                                                          ولم يذكرهم الله تعالى في الذين لا يجدي فيهم إنذار نذير ، وأن الله تعالى ختم على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، لم يذكرهم الله في [ ص: 122 ] أولئك ، وإن كانوا داخلين فيهم ; لأنهم جمعوا مع هذه الأوصاف أوصافا أخرى ، فكانوا أشد عند الله مقتا ، وأبعد في الفساد والأذى ، ذلك أنهم زادوا المراءاة والاستهزاء بالمؤمنين ، وبث روح الفشل فيهم ، وموهوا ، وعادوهم أشد من عداء الآخرين ، وحاربوا في العقيدة والفساد بأشد مما حاربوا فكانوا يحاربون بالعداوة يسرونها فتكون أفعل وبإشاعة التردد وبث روح الهزيمة عند الإقدام ، وبإشاعة المآثم والمفاسد في الذين آمنوا .

                                                          هنا يسأل سائل : كيف ينفى عنهم وصف الإيمان ، وقد كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم ، كما قال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأنهم كانوا يستفتحون على المشركين بنبي جاء أوانه ، وأدركهم زمانه . كما قال تعالى : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به

                                                          وإذا كانوا كذلك فهم يعرفون النبي ! فكيف يكون قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر ، ليس فيه إيمان ، ومنفي بقوله تعالى : وما هم بمؤمنين ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إن الإيمان ليس هو المعرفة المجردة ، إنما هو التصديق والإذعان والتسليم ، وهؤلاء مع معرفتهم الحق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا من اليهود ، فلم يذعنوا ولم يسلموا ، ولم تصل المعرفة إلى تصديق ; ولذلك نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عنهم بقوله تعالى : وما هم بمؤمنين أي ليسوا مؤمنين . واليوم الآخر وهو يوم القيامة ، وما يجري فيه من حساب ثم ثواب أو عقاب .

                                                          فالله سبحانه وتعالى أكد نفي إيمانهم بالجملة الاسمية ، أي أنه سبحانه نفى الإيمان وأصله عن ذواتهم ، كما أكدوا هم في نفاقهم الإيمان بالله ، وباليوم الآخر ، بتكرار الباء في بالله وباليوم الآخر .

                                                          [ ص: 123 ] وهنا إشارة بيانية إلى أن المنافقين ليس من شأنهم الإيمان بشيء ; لأن الإيمان بشيء من الأشياء يقتضي الإذعان والتصديق والتسليم ، والعمل بموجب الاعتقاد والاستجابة ، والمنافق قلبه غير مستقر ، ولا مطمئن إلى شيء ، هو قلب خاو ، والحقائق تتردد فلا تسكن ، ولا تدفع إلى عمل ولا اطمئنان ، فلا يؤمن بشيء ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين ، لا تدري إلى أيهما تذهب " ، وقال تعالى في وصفهم : مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومهما تكن حالهم فهم أشد الكفر عنادا وعنتا وخبثا ومقتا عند الله ورسوله ، وعند الناس أجمعين . ولقد يبلغ النفاق أن يغلب على نفوسهم ، فيظنون أنهم يخادعون الله ، ويحسبون أنه ليس عليما بخفايا نفوسهم ; ولذلك قال : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون الخدع : أن يظهر الشخص أنه يريد أمرا ليخفي إرادته الحقيقية ، ومقصده ، ومن ذلك ضب خادع إذا أخفى نفسه في جحره ، وقد أراد أن يضلل من يراقبه ، فأظهر الخروج من باب ويختفي في غيره .

                                                          وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه ، وهم يبطنون الكفر ، ولا يريدون غيره ، بل يريدون تضليل المؤمنين ، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى ، فالنص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان ، وإبطانهم الكفر ، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ، وفي آية أخرى : وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون .

                                                          [ ص: 124 ] فالآية الكريمة وصف لحالهم يخادعون الله والذين آمنوا فهي وصف لحالهم وما يرتكبون ، فعملهم عمل المخادع الذي يخادع الله والذين آمنوا بأن يوهمهم ويخادعهم فيظهر الإيمان ويبطن الكفر والعداوة وتربص الدوائر ، ويحسب أنه يخادع الله ورسوله والمؤمنين . والمخادعة مفاعلة بين اثنين كلاهما يريد خدع صاحبه ، والمفاعلة بين أولئك المنافقين من جانب والله ورسوله من جانب آخر ، وكيف يخادعون الله ، وهو علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض ؟ وكيف يخادعهم الله تعالى وهم في قبضته ، وكل من في السماوات والأرض في قبضته يوم القيامة ؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك فقرر أن الله تعالى يعاملهم معاملة المؤمنين ، فيتزوجون ، ويرثون ، ويعاملهم كأنهم المؤمنون الصادقون في الإيمان ، فهم يخادعون بإظهار ما لا يبطنون ، والله تعالى يعاملهم بما يظهرون ، ولا يعاملهم بما يبطنون ، أو يقال إن المعنى أنهم ينزلون بالمؤمنين ما يحسبونه مخادعة لهم ، وإيهامهم بأنهم آمنوا ، وما هم بمؤمنين ، أو يقال إن المخادعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ، وهم يعاملونهم معاملة المخادع لهم ، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم من لحن قولهم خفي أمرهم كما قال تعالى : ولتعرفنهم في لحن القول

                                                          والمعنى في الجملة بعد أن خرجنا المخادعة تلك التخريجات المختلفة أنهم يظهرون ما لا يبطنون محاولين أن ينزلوا بالمؤمنين ما تكون كالمخادعة ، وقرر ذلك الراغب الأصفهاني في المفردات فذكر أن الخداع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه من المؤمنين ، وفي التعبير عن ذلك بخداع الله تعالى إشارة إلى أن الذين يخادعون النبي إنما يخادعون الله تعالى ، وأن الله تعالى كاشف أمرهم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنهم إذ يضارونه ، ويخفون عليه أمورهم ، يبطنون عنه سبحانه وتعالى ما لا يبدون وهو من ورائهم محيط .

                                                          [ ص: 125 ] وإنهم إذ يخادعون المؤمنين بإظهارهم الإيمان ، وإبطانهم الكفر ، إنما يخدعون أنفسهم ، بأن يظهروا لغيرهم الإيمان وأمرهم مكشوف غير مستور ، وحالهم معروف ، وكفرهم يبدو في لحن أقوالهم ، فهم يحسبون أنهم يخفون على غيرهم أمرهم ، وهو معروف لغيرهم ، فهم المخدوعون أنفسهم ; ولذلك قال تعالى : وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، أي أنهم يحاولون أن يخدعوا غيرهم فيظنوا أنهم ستروا كفرهم وهو مكشوف لمن يخدعونهم ، وأن المؤمنين يعاملونهم بما يظهرون حتى يكون يوم الدين ، فهم المخدوعون ; لأنهم يعاملون كأنهم مسلمون حتى ينكشف أمرهم ، ولكنهم لا يشعرون ، أي لا يحسون بأنهم مخدوعون مغرورون وأمرهم بين . والله من ورائهم محيط .

                                                          وإن في ذلك القول الحكيم تصويرا دقيقا لحال المنافقين ، إذ إنهم لفرط ضلال نفوسهم ، وفقدهم الإيمان تفسد مداركهم ، وتضل أفهامهم ، فيحسبون أمرهم خفيا على غيرهم وما هو بخفي ، وتأخذهم عزة النفاق ، فلا يدركون ويستمرئون كذبهم ونفاقهم ، حتى يغتروا فيحيط بهم الضلال وهم لا يشعرون .

                                                          في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون الآفات الاجتماعية والنفسية أمراض تصاب بها النفس الإنسانية ، وهو ضعف يرد إلى النفوس ، وأفحش هذه الأمراض النفاق ، فهو ضعف يصيب النفوس يبتدئ من أحقر الأفراد إلى أن يصل إلى أعلاها ، ولا يظن أن النفاق يكون فقط لجلب نفع آثم ، أو لدفع ضرر جاثم ، بل هو ضعف نفسي يحيط بالإنسان ويتغلغل في نفسه ، وإطلاق كلمة (مرض ) هنا ، يصح أن يكون من قبل الحقيق ; لأن المرض هو ما يؤذي النفس ، ويلقي بها في الضعف ، وليس ذلك مقصورا على المرض الذي يصيب الجسم بل هو يشمل ما يصيبه في أعصابه ، كالجنون الذي يستر العقل ، وكالعته الذي يمنع الإدراك ، وكالسفه الذي لا يدري النفع من الضرر ، فهذه كلها أمراض ، وتعد [ ص: 126 ] في اللغة أمراضا ، كذلك مرض النفاق الذي يصيب النفوس بالوهن والحيرة ، والحقد والبغض لخير الناس ، وأن يكون صاحب هذا المرض غير مستقر بل هو في بلبال مستمر ، تزداد حاله كلما تمكن فيه هذا الداء ، وهو ساكن في النفس لا تخرج مظاهره ، وكلما استتر واستكن ازداد قوة وإيغالا في النفس حتى يصعب علاجه ، فإذا كان الكذب المجرد قد يعالج ، فالنفاق مرض لا علاج له .

                                                          وكان يراد المجاز بتشبيه النفاق بالمرض العضال الذي لا يشفى ، ومرض النفاق فساد القلب ، وقد صور ذلك الزمخشري في قوله : والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد ، والغل والحسد ، والميل إلى المعاصي والعزم عليها والبغضاء ، لأن صدورهم كانت تغلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، غلا وحنقا ، ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله : قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر

                                                          ومن التفسير المأثور أن المرض هو النفاق ، وهو مرض إذا أصاب القلب فقد الإيمان بأي شيء من شئون الأخلاق أو الاتصال بالناس ، فإنه يصبح في غربة عن أهل الحق وأهل المعرفة ، والاتصال بهم ، فيكون في جو معتم ، تسوده الكآبة ولا يظله نور الحق ، وذلك شر ما يقع فيه الإنسان .

                                                          وإن المنافق إذا أوغل في قلبه النفاق انتقل به من دركة إلى دركة أسفل منها ، فيزيد خسرانا بإيغاله . كالسائر في متاهة ، كلما أوغل فيها ازداد ضلالا وبعدا عن الطريق الجدد ، حيث الأعلام . وهذا معنى : فزادهم الله مرضا أي أنهم بسيرهم في هذا الطريق الضال يزدادون إيغالا فيه ، فيزيد مرضهم بتقدير الله تعالى ; لأنهم قد أوغلوا مختارين فيه .

                                                          [ ص: 127 ] وهكذا كل المعاصي والذنوب التي هي أمراض القلب ، من اختارها ، فقد اختار الضلالة كلما سار فيها ازداد بعدا عن الحق وعن الطريق القويم فيوغل في المعاصي ، لا يعود ولا يتوب .

                                                          وقد بين الله تعالى عاقبتهم ، فقال : ولهم عذاب أليم أي عذاب مؤلم شديد ، فأليم هنا بمعنى مؤلم ، يصيب أجسادهم يوم القيامة كقوله تعالى : بديع السماوات والأرض أي مبدع السماوات والأرض يعني منشئها على غير مثال سبق ، فيكون لهم جزاءان أحدهما دنيوي ، وهو متولد من النفاق نفسه إذ يكونون في اضطراب لا يستقرون على قرار ، ولا يطمئنون ; إذ الغل والحقد والحسد يقتل نفوسهم قتلا ، ويستمرون على ذلك ، حتى يكون هذا مرضا خبيثا يسكن نفوسهم ، حتى ينغص عليهم كل حياتهم ، وتكون كل نعمة تنزل بأهل الإيمان والحق نقمة عليهم .

                                                          الجزاء الثاني هو العذاب الشديد المؤلم الذي ينالهم يوم القيامة ، وهو ينتظرهم ، وهم واردون عليه بلا ريب ، ولقد بين الله سبحانه وتعالى سبب ذلك العذاب الذي هو الجزاء الثاني فقال تعالت كلماته : بما كانوا يكذبون فالباء هنا باء السببية ، أي بسبب الكذب المستمر الذي كانوا يقومون به ، فـ " كانوا " هنا دالة على الاستقرار والدوام ، كما في قوله تعالى : وكان الله غفورا رحيما ، وكما في قوله تعالى : إنه كان ظلوما جهولا .

                                                          فمعنى بما كانوا يكذبون ، بسبب كذبهم المستمر الذي لا ينقطع ، وقد اتصفوا بالكذب : فكذبوا على أنفسهم ، فكلما بدا لهم ضوء الحق طمسوه ، وغروها الغرور ، وخدعوها بأنهم أهل الحق ، وموهوا عليها ، كما موهوا على الناس ، فصارت في عماء ، وغلبت عليها شقوتها .

                                                          وكذبوا على الرسول وأصحابه ، وقالوا آمنا بالحق وباليوم الآخر .

                                                          [ ص: 128 ] وكانوا لا يصدقون في حديث مع الناس ، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف المنافق : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية