الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              24 (5) باب

                                                                                              إطلاق اسم الإيمان على ما جعله في حديث جبريل إسلاما

                                                                                              [ 14 ] عن أبي جمرة ، قال : كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس ، فأتته امرأة فسألته عن نبيذ الجر ؟ فقال : إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من الوفد ؟ - أو : من القوم ؟ - قالوا : ربيعة ، قال : مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا الندامى ، قال : فقالوا : يا رسول الله ، إنا نأتيك من شقة بعيدة ، وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام ، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة ، قال : فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ; قال : أمرهم بالإيمان بالله وحده ، وقال : هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تؤدوا خمسا من المغنم ، ونهاهم عن الدباء ، والحنتم ، والمزفت - وربما قال : المقير ، وربما قال : النقير - وقال : احفظوه ، وأخبروا به من ورائكم .

                                                                                              وفي رواية : من وراءكم .

                                                                                              رواه البخاري ( 53 ) ، ومسلم ( 17 ) ، وأبو داود ( 3692 ) و ( 3694 ) ، والترمذي ( 2614 ) ، والنسائي ( 8 \ 323 ) .

                                                                                              [ ص: 171 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 171 ] (5) ومن باب إطلاق اسم الإيمان على ما جعله في حديث جبريل إسلاما

                                                                                              معنى جعل في هذه الترجمة : سمى ، كما قال تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ الزخرف : 19 ] ويصلح أن يكون بمعنى : صير ; كما تقول العرب : جعلت حسن فلان قبحا ، أي : صيرته ، وقد تقدم القول في الإيمان والإسلام من حديث جبريل .

                                                                                              (قوله : " أبو جمرة ") هذا الذي يروي عن ابن عباس حديث وفد عبد القيس ، هو بالجيم والراء ، واسمه : نصر بن عمران الضبعي ، وقد روى عن ابن عباس رجل آخر يقال له : أبو حمزة - بالحاء المهملة والزاي - واسمه : عمران بن أبي عطاء القصاب .

                                                                                              و (قوله : " كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس ") أي : أبلغ كلامه ، وأفسره لمن لا يفهمه ، وعرف الترجمة : التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم ، وقيل كان أبو جمرة يتكلم بالفارسية . وفيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد ; لأنه مخبر ، وقد اختلف فيه ، فقيل : لا يكفي الواحد ، بل لا بد من اثنين ; لأنها شهادة .

                                                                                              و (قوله : " فأتته امرأة فسألته عن نبيذ الجر ") وهي : جمع جرة ، وهي : قلال من [ ص: 172 ] فخار ، غير أنها مطلية بالزجاج ، وهو الحنتم ، ونبيذ الجر : هو ما ينبذ فيها من التمر وغيره . وإنما سألته عن حكم النبيذ في الجرار : هل يحل أم لا ؟ فذكر لها ما يدل على منع ذلك ، ثم أخذ في ذكر الحديث بقصته . ففيه : ما يدل على أن المفتي يجوز له أن يذكر الدليل مستغنيا به عن النص على الفتيا إذا كان السائل بصيرا بموضع الحجة .

                                                                                              و (قوله - عليه الصلاة والسلام - : " من القوم ؟ أو من الوفد ؟ ") هذا شك من بعض الرواة . و " الوفد " : الوافدون ، وهم القادمون والزائرون ، يقال : وفد يفد ، فهو وافد ، والجمع : وافدون ووفود ، والقوم وفد ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [ مريم : 85 ] ركبانا .

                                                                                              و (قوله : " مرحبا ") هو من الرحب - بضم الراء - وهو السعة ، والرحب - بفتح الراء - : هو الشيء الواسع ، وهو منصوب بفعل مضمر ، لا يستعمل إظهاره ، أي : صادفت رحبا ، أو أتيت رحبا ; فاستأنس ولا تستوحش . والخزايا جمع خزيان ; مثل : ندمان وندامى ، وسكران وسكارى ; كما قال تأبط شرا :


                                                                                              . . . . . . ... والموت خزيان ينظر

                                                                                              خزي الرجل يخزى خزيا ; إذا ذل ، وخزاية : إذا خجل واستحيى . والندامى هنا : جمع نادم ; لكنه على غير قياس ; لأن قياس ندامى أن يكون جمع ندمان ، كما [ ص: 173 ] قلناه ، والندمان : هم المجاليس على الخمر وساقيها ; كما قال الشاعر :


                                                                                              فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم

                                                                                              وليس مرادا هاهنا ، وإنما جمع نادما هذا على ندامى ; إتباعا لخزايا ; على عادتهم في إتباع اللفظ اللفظ ، وإن لم يكن بمعناه ; كما قالوا : إني لآتيه بالغدايا والعشايا ; فجمعوا الغدوة : غدايا ; لما ضموه إلى العشايا ; كما قال شاعرهم :


                                                                                              هتاك أخبية ولاج أبوية . . . . .

                                                                                              فجمع الباب على أبوية ، لما أتبعه أخبية ، ولو أفرده لما جاز ذلك ، ومن هذا النوع : قوله - عليه الصلاة والسلام - للنساء المتبعات للجنازة : ارجعن مأزورات غير مأجورات ، ولولا مراعاة الإتباع قال : موزورات بالواو ; لأنه من الوزر . وقال القزاز في " جامعه " : يقال في النادم : ندمان ; فيكون ندامى على القياس ، ومعنى هذا القول : التأنيس ، والإكرام والثناء عليهم بأنهم بادروا بإسلامهم طائعين من غير خزي لحقهم من قهر ولا سباء ، ثم إنهم لما أسلموا كذلك احترموا وأكرموا وأحبوا ، فلم يندموا على ذلك ، بل انشرحت صدورهم للإسلام ، وتنورت قلوبهم بالإيمان .

                                                                                              وغير خزايا : منصوب على الحال ، أي : أتيتم في هذه الحال . وروي : ولا الندامى ، ولا ندامى ، معرفا وغير معرف ; وهما بمعنى واحد . والشقة البعيدة : المسافة البعيدة الصعبة . والحي : القبيل ، وربيعة : هو خبر مبتدأ محذوف ; أي : نحن بنو ربيعة .

                                                                                              و (قوله : " وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام ") كذا الرواية الصحيحة [ ص: 174 ] بتعريف الحرام ، وإضافة الشهر إليه ، وهو من باب إضافة الشيء إلى صفته ; كما قالوا : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ; وقال تعالى : ولدار الآخرة خير [ يوسف : 109 ] وهو على تقدير محذوف ; فكأنه قال : شهر الوقت الحرام ، ومسجد المكان الجامع ، ولدار الحالة الآخرة ، ونحوه .

                                                                                              ويعنون بشهر الحرام : رجبا ; لأنه متفرد بالتحريم من شهور الحل ، بخلاف سائر الأشهر الحرم ; فإنها متوالية ; ولذلك قال فيها : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، يعنون به : رجبا ، وهو الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه شهر مضر ، وإنما نسبه إليهم : إما لأنها انفردت بابتداء احترامه ، أو لتخصيص الاحترام به ، أو بزيادة التعظيم له على غيرهم ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقد وقع في بعض النسخ : في شهر حرام ، وهو يصلح لرجب وحده ، ولجميع الأشهر الحرم ، وحاصل قولهم هذا أنه اعتذار عن امتناع تكرر قدومهم عليه .

                                                                                              و (قوله : " فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ، ندخل به الجنة ") قيدناه على من يوثق بعلمه : نخبر به مرفوعا ، وندخل مرفوعا ومجزوما ; فرفعهما على الصفة لأمر ، وجزم ندخل على جواب الأمر المتضمن للجزاء ; فكأنه قال : إن أمرتنا بأمر واضح ، فعلنا به ، ورجونا دخول الجنة بذلك الفعل .

                                                                                              والقول الفصل : هو الواضح البليغ الذي يفصل بين الحق والباطل ; كما قال تعالى : إنه لقول فصل [ الطارق : 13 ] .

                                                                                              و (قوله : " فأمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ") ثم إنه ذكر خمسا : فقيل في ذلك : [ ص: 175 ] إن أولى الأربع الموعود بها : هو إقام الصلاة ، في ذكر كلمة التوحيد ; تبركا بها ، وتشريفا لها ... كما قيل ذلك في قوله تعالى : فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] في قول كثير من أهل العلم . وقيل : إنما قصد إلى ذكر الأركان الأربع التي هي : التوحيد ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، ثم ظهر له أنهم أهل غزو وجهاد ، فبين لهم وجوب أداء الخمس ، والله أعلم .

                                                                                              وإنما لم يذكر لهم الحج ; لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ، أو لأن وجوب الحج على التراخي ، والله تعالى أعلم . وقد تقدم القول في الإيمان والإسلام ، وأنهما حقيقتان متباينتان في الأصل ، وقد يتوسع فيطلق أحدها على الآخر ، كما جاء هنا ; فإنه أطلق الإيمان على الإسلام ; لأنه عنه يكون غالبا ، وهو مظهره .




                                                                                              الخدمات العلمية