الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب أكل ولي اليتيم من ماله

قال الله (تعالى): ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ؛ قال أبو بكر : قد اختلف السلف في تأويله؛ فروى معمر عن الزهري ؛ عن القاسم بن محمد قال: جاء رجل إلى ابن عباس ؛ فقال: إن في حجري أيتاما لهم أموال؛ وهو يستأذنه أن يصيب منها؛ فقال ابن عباس : "ألست تهنأ جرباءها؟"؛ قال: بلى؛ قال: "ألست تبغي ضالتها؟"؛ قال: بلى؛ قال: "ألست تلوط حياضها؟"؛ قال: بلى؛ قال: "ألست تفرط عليها يوم ورودها؟"؛ قال: بلى؛ قال: "فاشرب من لبنها غير ناهك في الحلب؛ ولا مضر بنسل"؛ وروى الشيباني عن عكرمة ؛ عن ابن عباس قال: "الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم؛ ولا يكتسي عمامة"؛ فشرط في الحديث الأول عمله في مال اليتيم في إباحة الأكل؛ ولم يشرط في حديث عكرمة ؛ وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني أبو الخير؛ مرثد بن عبد الله اليزني ؛ أنه سأل أناسا من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ عن قوله (تعالى): ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ؛ فقالوا: "فينا نزلت؛ أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم"؛ وقد طعن في هذا الحديث من جهة سنده؛ ويفسد أيضا من جهة أنه لو أبيح لهم الأكل لأجل عملهم لما اختلف فيه الغني والفقير؛ فعلمنا أن هذا التأويل ساقط؛ وأيضا في حديث ابن عباس إباحة الأكل؛ دون أن يكتسي منه عمامة؛ ولو كان ذلك مستحقا لعمله لما اختلف فيه حكم المأكول والملبوس؛ فهذا أحد الوجوه التي تأولت عليه الآية؛ وهو أن يقتصر على الأكل فحسب؛ إذا عمل لليتيم؛ وقال آخرون: يأخذه قرضا ثم يقضيه؛ وروى شريك؛ عن أبي إسحاق ؛ عن حارثة بن مضرب؛ عن عمر قال: "إنى أنزلت مال الله (تعالى) بمنزلة مال اليتيم؛ إن استغنيت استعففت؛ وإن افتقرت أكلت بالمعروف وقضيت"؛ وروي عن عبيدة السلماني ؛ وسعيد بن [ ص: 360 ] جبير ؛ وأبي العالية ؛ وأبي وائل؛ ومجاهد ؛ مثل ذلك؛ وهو أن يأخذ قرضا ثم يقضيه إذا وجد؛ وقول ثالث: قال الحسن؛ وإبراهيم؛ وعطاء بن أبي رباح ؛ ومكحول : "إنه يأخذ منه ما يسد الجوعة؛ ويواري العورة؛ ولا يقضي إذا وجد"؛ وقول رابع؛ وهو ما روي عن الشعبي أنه بمنزلة الميتة؛ يتناوله عند الضرورة؛ فإذا أيسر قضاه؛ وإذا لم يوسر فهو في حل؛ وقول خامس؛ وهو ما روى مقسم ؛ عن ابن عباس : فليستعفف قال: "بغناه؛ و ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ؛ قال: "فلينفق على نفسه من ماله؛ حتى لا يصيب من مال اليتيم شيئا؛ حدثنا عبد الباقي بن قانع؛ حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا منجاب بن الحارث قال: حدثنا أبو عامر الأسدي قال: حدثنا سفيان عن الأعمش ؛ عن الحكم؛ عن مقسم ؛ عن ابن عباس بمعنى ذلك؛ وقد روى عكرمة عنه أنه يقضي؛ وروي عن ابن عباس أنه منسوخ؛ وقال مجاهد - في رواية أخرى -: "فليأكل بالمعروف من مال نفسه؛ ولا رخصة له في مال اليتيم"؛ وهو قول الحكم.

قال أبو بكر : فحصل الاختلاف بين السلف على هذه الوجوه؛ وروي عن ابن عباس أربع روايات؛ على ما ذكرنا؛ إحداها أنه إذا عمل لليتيم في إبله شرب من لبنها؛ والثانية أنه يقضي؛ والثالثة: "لا ينفق من مال اليتيم شيئا؛ ولكنه يقوت على نفسه من ماله؛ حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم؛ والرابعة أنه منسوخ؛ والذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه قرضا؛ ولا غيره؛ غنيا كان؛ أو فقيرا؛ ولا يقرضه غيره أيضا؛ وقد روى إسماعيل بن سالم ؛ عن محمد قال: "أما نحن فلا نحب للوصي أن يأكل من مال اليتيم قرضا؛ ولا غيره؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أنه يأخذ قرضا إذا احتاج؛ ثم يقضيه؛ كما روي عن عمر ؛ ومن تابعه؛ وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيما؛ فإن خرج لتقاضي دين لهم؛ أو إلى ضياع لهم؛ فله أن ينفق؛ ويكتسي؛ ويركب؛ فإذا رجع رد الثياب والدابة إلى اليتيم؛ قال: وقال أبو يوسف: "وقوله (تعالى): فليأكل بالمعروف ؛ يجوز أن يكون منسوخا بقوله (تعالى): لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ".

قال أبو بكر : جعل أبو يوسف الوصي في هذه الحال كالمضارب؛ في جواز النفقة من ماله في السفر؛ وقال ابن عبد الحكم؛ عن مالك : "ومن كان له يتيم فخلط نفقته بماله؛ فإن كان الذي يصيب اليتيم أكثر مما يصيب وليه من نفقته؛ فلا بأس؛ وإن كان الفضل لليتيم فلا يخلطه"؛ ولم يفرق بين الغني والفقير؛ وقال المعافى؛ عن الثوري : "يجوز لولي اليتيم أن يأكل طعام اليتيم؛ ويكافئه عليه"؛ وهذا [ ص: 361 ] يدل على أنه كان يجيز له أن يستقرض من ماله؛ وقال الثوري : "لا يعجبني أن ينتفع من ماله بشيء؛ وإن لم يكن على اليتيم فيه ضرر؛ نحو اللوح يكتب فيه"؛ وقال الحسن بن حي: "يستقرض الوصي من مال اليتيم؛ إذا احتاج إليه؛ ثم يقضيه؛ ويأكل الوصي من مال اليتيم بقدر عمله فيه؛ إذا لم يضر بالصبي".

قال أبو بكر : قال الله (تعالى): وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ؛ وقال (تعالى): فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ؛ وقال (تعالى): ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ؛ وقال (تعالى): إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ؛ وقال (تعالى): وأن تقوموا لليتامى بالقسط ؛ وقال (تعالى): لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ؛ وهذه الآي محكمة؛ حاظرة لمال اليتيم على وليه؛ في حال الغنى؛ والفقر؛ وقوله (تعالى): ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ؛ متشابه؛ محتمل للوجوه التي ذكرنا؛ فأولى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة؛ وهو أن يأكل من مال نفسه بالمعروف؛ لئلا يحتاج إلى مال اليتيم; لأن الله (تعالى) قد أمرنا برد المتشابه إلى المحكم؛ ونهانا عن اتباع المتشابه من غير رد له إلى المحكم؛ قال الله (تعالى): منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ؛ وتأويل من تأوله على جواز أخذ مال اليتيم قرضا؛ أو غير قرض ؛ مخالف لمعنى المحكم؛ ومن تأوله على غير ذلك فقد رده إلى المحكم؛ وحمله على معناه؛ فهو أولى؛ وقد روي أن قوله (تعالى): فليأكل بالمعروف ؛ منسوخ؛ رواه الحسن بن أبي الحسن بن عطية؛ عن عطية؛ أبيه؛ عن ابن عباس : ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ؛ نسختها الآية التي تليها: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ؛ وروى عثمان بن عطاء ؛ عن أبيه؛ عن ابن عباس مثله؛ وروى عيسى بن عبيد الكندي ؛ عن عبيد الله بن عمر بن مسلم ؛ عن الضحاك بن مزاحم ؛ في قوله (تعالى): ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ؛ منسوخ بقوله (تعالى): إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ؛ فإن قيل: روى عمرو بن شعيب ؛ عن أبيه؛ عن جده أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لي مال؛ ولي يتيم؛ فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف؛ ولا متأثل مالك بماله "؛ وروى عمرو بن دينار ؛ عن الحسن العوفي ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأكل ولي اليتيم من ماله بالمعروف؛ غير متأثل منه مالا"؛ قيل له: غير جائز الاعتراض [ ص: 362 ] بهذين الخبرين على ما ذكرنا من الآي المقتضية لحظر مال اليتيم؛ فإن صح ذلك فهو محمول على الوجه الذي يجوز؛ وهو أن يعمل في مال اليتيم مضاربة فيأخذ منه مقدار ربحه؛ وهذا جائز عندنا؛ وقد روي عن جماعة من السلف نحو ذلك؛ فإن قيل: فإذا جاز أن يأخذ ربح مال اليتيم إذا عمل به مضاربة ؛ فلم لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه؛ كما روي عن ابن عباس في إحدى الروايات عنه أنه إذا كان يهنأ جرباء الإبل؛ ويبغي ضالتها؛ ويلوط حياضها؛ جاز له أن يشرب من لبنها؛ غير مضر بنسل؛ ولا ناهك حلبا؛ وكما روي عن الحسن أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم؟ قيل له: لأنه لا يخلو الوصي؛ إذا أعان في الإبل؛ وعمل في النخل؛ من أحد وجهين؛ إما أن يأخذه على وجه الأجرة لعمله؛ أو على غير الأجرة؛ والعوض من العمل؛ فإن كان يأخذه على وجه الأجرة فذلك يفسد من أربعة أوجه؛ أحدها أن الذين أباحوا ذلك له إنما أباحوه في حال الفقر؛ إذ لا خلاف أن الغني لا يجوز له أخذه؛ وهو نص الكتاب؛ في قوله (تعالى): ومن كان غنيا فليستعفف ؛ واستحقاق الأجرة لا يختلف فيه الغني والفقير؛ فبطل أن يكون أجرة من هذا الوجه؛ والوجه الثاني أن الوصي لا يجوز له أن يستأجر نفسه لليتيم ؛ والوجه الثالث أن الذين أباحوا ذلك لم يشرطوا له شيئا معلوما؛ والإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة؛ والوجه الرابع أن من أباح ذلك له لم يجعله أجرة؛ فبطل أن يكون ذلك أجرة؛ وليس هو بمنزلة ربح المضاربة؛ إذا عمل به الوصي; لأن الربح الذي يستحقه من المال لم يكن قط مالا لليتيم؛ ألا ترى أن ما يشرطه رب المال للمضارب من الربح لم يكن قط ملكا لرب المال؟ ولو كان ملكا لرب المال مشروطا للمضارب؛ بدلا من عمله؛ لوجب أن يكون مضمونا عليه؛ كالأجرة التي هي مستحقة من مال المستأجر؛ بدلا من عمل الأجير؛ هي مضمونة على المستأجر؛ فلما لم يكن الربح المشروط للمضارب مضمونا على رب المال؛ ثبت أنه لم يكن قط ملكا لرب المال؛ وأنه إنما حدث على ملك المضارب؛ ويدل على ذلك أن مريضا لو دفع مالا مضاربة؛ وشرط للمضارب تسعة أعشار الربح؛ وهو أكثر من ربح مثله؛ أن ذلك جائز؛ ولم يحتسب بالمشروط للمضارب من ذلك من مال المريض إن مات من مرضه؛ وأن ذلك ليس بمنزلة ما لو استأجره بأكثر من أجرة مثله فيكون ذلك من الثلث؛ فليس إذا في أخذه ربح المضاربة أخذ شيء من مال اليتيم.

فإن قيل: هلا كان الوصي في ذلك كسائر العمال؛ والقضاة الذين يعملون؛ ويأخذون أرزاقهم لأجل عملهم [ ص: 363 ] للمسلمين؟ فكذلك الوصي إذا عمل لليتيم جاز له أخذ رزقه بقدر عمله؛ قيل له: لا خلاف بين الفقهاء أن الوصي لا يجوز له أخذ شيء من مال اليتيم لأجل عمله؛ إذا كان غنيا؛ وقد حظر ذلك عليه نص التنزيل؛ في قوله (تعالى): ومن كان غنيا فليستعفف ؛ ولا خلاف مع ذلك أن القضاة والعمال جائز لهم أخذ أرزاقهم مع الغنى؛ ولو كان ما أخذه ولي اليتيم من ماله يجري مجرى رزق القضاة؛ والعمال؛ جاز له أن يأخذه في حال الغنى؛ فدل ذلك على أن ولي اليتيم لا يستحق رزقا من ماله؛ ولا خلاف أيضا أن القاضي لا يجوز له أن يأخذ من مال اليتيم شيئا؛ وإليه القيام بأمر الأيتام؛ فثبت بذلك أن سائر الناس؛ ممن لهم الولاية على الأيتام؛ لا يجوز لهم أخذ شيء من أموالهم؛ لا قرضا؛ ولا غيره؛ كما لا يأخذه القاضي؛ فقيرا كان؛ أو غنيا؛ فإن قيل: فما الفارق بين رزق القاضي والعامل؛ وبين أخذ ولي اليتيم من ماله مقدار الكفاية؛ وبين أخذ الأجرة؟ قيل له: إن الرزق ليس بأجرة لشيء؛ وإنما هو شيء جعله الله (تعالى) له؛ ولكل من قام بشيء من أمور المسلمين؛ ألا ترى أن الفقهاء لهم أخذ الأرزاق ولم يعملوا شيئا يجوز أخذ الأجرة عليه؟ لأن اشتغالهم بالفتيا وتفقيه الناس فرض؛ ولا جائز لأحد أخذ الأجرة على الفروض؛ والمقاتلة وذريتها يأخذون الأرزاق وليست بأجرة؛ وكذلك الخلفاء؛ وقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - سهم من الخمس؛ والفيء؛ وسهم من الغنيمة؛ إذا حضر القتال؛ وغير جائز لأحد أن يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يأخذ الأجر على شيء؛ مما يقوم به من أمور الدين؛ وكيف يجوز ذلك مع قول الله (تعالى): قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ؛ و قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ؟ فثبت بذلك أن الرزق ليس بأجرة؛ ويدلك على هذا أنه قد تجب للفقراء والمساكين والأيتام في بيت المال الحقوق؛ ولا يأخذونها بدلا من شيء؛ فأخذ الأجرة للقاضي؛ ولمن قام بشيء من أمور الدين؛ غير جائز؛ وقد منع القاضي أن يقبل الهدية؛ وسئل عبد الله بن مسعود عن قوله (تعالى): أكالون للسحت ؛ أهو الرشا؟ قال: "لا؛ ذاك كفر؛ إنما هو هدايا العمال"؛ وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " هدايا الأمراء غلول "؛ فالقاضي ممنوع من أخذ الأجرة على شيء من أمر القضاء؛ ومحظور عليه قبول الهدايا؛ وتأولها السلف على أنها السحت المذكور في كتاب الله (تعالى)؛ وولي اليتيم لا يخلو فيما يأخذه من مال اليتيم من أن يأخذه أجرة؛ أو على سبيل رزق القاضي؛ والعامل؛ ومعلوم أن الأجرة إنما تكون على عمل معلوم؛ ومدة معلومة؛ [ ص: 364 ] وأجر معلوم؛ وينبغي أن يتقدم له عقد إجارة؛ ويستوي فيها الغني والفقير؛ ومن يجيز له أخذ شيء من مال اليتيم على وجه القرض؛ أو على جهة غير القرض؛ فإنه لا يجعله أجرة؛ لما ذكرنا؛ ولاختلاف حكم الغني والفقير عندهم فيه؛ فثبت أنه ليس بأجرة؛ ولا يجوز له أن يأخذه على حسب ما يأخذه القضاة من الأرزاق؛ لاستواء حال الغني والفقير من القضاة فيما يأخذونه من الأرزاق؛ واختلاف الغني والفقير عند مجيزي أخذ ذلك من مال اليتيم; ولأن الرزق إنما يجب في بيت مال المسلمين؛ لا في مال أحد بعينه من الناس؛ فالمشبهلولي اليتيم فيما يجيز له أخذ شيء من ماله بالقاضي؛ والأجير؛ فيما يأخذانه مغفل للواجب عليه؛ ويدل على أن ولي اليتيم لا يحل له أخذ شيء من ماله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في غنائم خيبر: "لا يحل لي مما أفاء الله عليكم مثل هذه"؛ يعني وبرة أخذها من بعيره؛ إلا الخمس؛ والخمس مردود فيكم؛ فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتولاه من مال المسلمين كما ذكرنا؛ فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم أحرى أن يكون كذلك؛ وأيضا لما كان دخول الوصي في الوصية؛ على وجه التبرع من غير شرط أجرة؛ كان بمنزلة المستبضع؛ فلا أجرة له؛ ولا يحل له أخذ شيء منه قرضا؛ ولا غيره؛ كما لا يجوز ذلك للمستبضع.

وقوله (تعالى): فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ؛ قال أبو بكر : الآي التي تقدم ذكرها في أمر الأيتام تدل على أن سبيل الأيتام أن يلي عليهم غيرهم في حفظ أموالهم؛ والتصرف عليهم فيما يعود نفعه عليهم؛ وهم وصي الأب؛ أو الجد؛ إن لم يكن وصي أب أو وصي الجد؛ إن لم يكن أحد من هؤلاء؛ أو أمين؛ حاكم عدل؛ بعد أن يكون الأمين أيضا عدلا؛ وكذلك شرط الأوصياء؛ والجد؛ والأب؛ وكل من يتصرف على الصغير؛ لا يستحق الولاية عليه إلا أن يكون عدلا؛ مأمونا ؛ فأما الفاسق؛ والمتهم من الآباء؛ والمرتشي من الحكام؛ والأوصياء؛ والأمناء غير المأمونين؛ فإن واحدا من هؤلاء غير جائز له التصرف على الصغير؛ ولا خلاف في ذلك نعلمه؛ ألا ترى أنه لا خلاف بين المسلمين في أن القاضي إذا فسق بأخذ الرشا؛ أو ميل إلى هوى؛ وترك الحكم؛ أنه معزول؛ غير جائز الحكم؟ فكذلك حكم الله (تعالى) فيمن ائتمنه على أموال الأيتام؛ من قاض؛ أو وصي؛ أو أمين؛ أو حاكم؛ فغير جائز ثبوت ولايته في ذلك؛ إلا على شرط العدالة؛ وصحة الأمانة؛ وقد أمر الله (تعالى) أولياء الأيتام بالإشهاد عليهم؛ بعد البلوغ؛ بما يدفعون إليهم من أموالهم؛ وفي ذلك ضروب من الأحكام؛ أحدها الاحتياط لكل واحد من اليتيم؛ ووالي ماله؛ فأما اليتيم فلأنه إذا قامت عليه البينة [ ص: 365 ] بقبض المال؛ كان أبعد من أن يدعي ما ليس له؛ وأما الوصي فلأن يبطل دعوى اليتيم بأنه لم يدفعه إليه؛ كما أمر الله (تعالى) بالإشهاد على البيوع؛ احتياطا للمتبايعين؛ ووجه آخر في الإشهاد؛ وهو أنه يظهر أداء أمانته؛ وبراءة ساحته؛ كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الملتقط بالإشهاد على اللقطة ؛ في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل؛ ولا يكتم ولا يغيب"؛ فأمره بالإشهاد؛ لتظهر أمانته؛ وتزول عنه التهمة؛ والله الموفق.

التالي السابق


الخدمات العلمية