الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حالة الوقعة ، ولقاء العدو ، فنقول - وبالله التوفيق : إن الأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين إما أن كانت الدعوة قد بلغتهم ، وإما أن كانت لم تبلغهم ، فإن كانت الدعوة لم تبلغهم فعليهم الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام باللسان ; لقول الله - تبارك وتعالى - { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة ; لأن الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة بمجرد العقل فاستحقوا القتل بالامتناع ، لكن الله - تبارك وتعالى - حرم قتالهم قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام وبلوغ الدعوة إياهم فضلا منه ومنة قطعا لمعذرتهم بالكلية وإن كان لا عذر لهم في الحقيقة ; لما أقام - سبحانه وتعالى - من الدلائل العقلية التي لو تأملوها حق التأمل ، ونظروا فيها لعرفوا حق الله - تبارك وتعالى - عليهم ، لكن تفضل عليهم بإرسال الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ; لئلا يبقى لهم شبهة عذر { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك } .

                                                                                                                                وإن لم يكن لهم أن يقولوا ذلك في الحقيقة لما بينا ، ولأن القتال ما فرض لعينه بل للدعوة إلى الإسلام ، والدعوة دعوتان : دعوة بالبنان ، وهي القتال ودعوة بالبيان ، وهو اللسان ، وذلك بالتبليغ والثانية أهون من الأولى ; لأن في القتال مخاطرة الروح والنفس والمال ، وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك ، فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها ، هذا إذا كانت الدعوة لم تبلغهم ، فإن كانت قد بلغتهم جاز لهم أن يفتتحوا القتال من غير تجديد الدعوة ; لما بينا أن الحجة لازمة ، والعذر في الحقيقة منقطع ، وشبهة العذر انقطعت بالتبليغ مرة ، لكن مع هذا الأفضل أن لا يفتتحوا القتال إلا بعد تجديد الدعوة لرجاء الإجابة في الجملة .

                                                                                                                                وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتى يدعوهم إلى الإسلام فيما كان دعاهم غير مرة دل أن الافتتاح بتجديد الدعوة أفضل ، ثم ، إذا دعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا كفوا عنهم القتال ; لقوله عليه الصلاة والسلام { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } وقوله عليه الصلاة والسلام { من قال لا إله إلا الله فقد عصم مني دمه وماله ، } فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذمة ، إلا مشركي العرب والمرتدين لما نذكره إن شاء الله - تعالى - بعد فإن أجابوا كفوا عنهم ; لقوله عليه الصلاة والسلام { فإن قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين وإن أبوا ، استعانوا بالله - سبحانه وتعالى - على قتالهم ، } ووثقوا بعهد الله - سبحانه وتعالى - النصر لهم بعد أن بذلوا جهدهم ، واستفرغوا وسعهم ، وثبتوا وأطاعوا الله - سبحانه وتعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم وذكروا الله كثيرا على ما قال - تبارك وتعالى - { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } ولهم أن يقاتلوهم وإن لم يبدءوا بالدعوة ; لقول الله - تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وسواء كان في الأشهر الحرم أو في غيرها ; لأن حرمة القتال في الأشهر الحرم صارت منسوخة بآية السيف ، وغيرها من آيات القتال ، ولا بأس بالإغارة والبيات عليهم ، ولا بأس بقطع أشجارهم المثمرة ، وغير المثمرة ، وإفساد زروعهم ; لقوله - تبارك وتعالى - { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } أذن - سبحانه وتعالى - بقطع النخيل في صدر الآية الشريفة ، ونبه في آخرها أن ذلك يكون كبتا وغيظا للعدو بقوله - تبارك وتعالى { وليخزي الفاسقين } .

                                                                                                                                ولا بأس بإحراق حصونهم بالنار ، وإغراقها بالماء ، وتخريبها وهدمها عليهم ، ونصب المنجنيق عليها ; لقوله - تبارك وتعالى { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ولأن كل ذلك من باب القتال ; لما فيه من قهر العدو وكبتهم وغيظهم ، ولأن حرمة الأموال ; لحرمة أربابها ، ولا حرمة لأنفسهم حتى يقتلون ، فكيف لأموالهم ؟ ولا بأس برميهم بالنبال ، وإن علموا أن فيهم مسلمين من الأسارى والتجار لما فيه من الضرورة ، إذ حصون الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير ، أو تاجر فاعتباره يؤدي إلى انسداد باب [ ص: 101 ] الجهاد ، ولكن يقصدون بذلك الكفرة دون المسلمين ; لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق .

                                                                                                                                وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم ; لضرورة إقامة الفرض ، لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال ، فإن رموهم فأصاب مسلما فلا دية ولا كفارة وقال الحسن بن زياد - رحمه الله : تجب الدية ، والكفارة وهو أحد قولي الشافعي - رحمه الله .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الحسن أن دم المسلم معصوم فكان ينبغي أن يمنع من الرمي ، إلا أنه لم يمنع لضرورة إقامة الفرض فيتقدر بقدر الضرورة والضرورة في رفع المؤاخذة لا في نفي الضمان ، كتناول ماء الغير حالة المخمصة إنه رخص له التناول لكن يجب عليه الضمان لما ذكرنا ، كذلك هاهنا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه كما مست الضرورة إلى دفع المؤاخذة لإقامة فرض القتال ، مست الضرورة إلى نفي الضمان أيضا ; لأن وجوب الضمان يمنع من إقامة الفرض ; لأنهم يمتنعون منه خوفا من لزوم الضمان ، وإيجاب ما يمنع من إقامة الواجب متناقض ، وفرض القتال لم يسقط ، دل أن الضمان ساقط بخلاف حالة المخمصة ; لأن وجوب الضمان هناك لا يمنع من التناول ; لأنه لو لم يتناول لهلك ، وكذا حصل له مثل ما يجب عليه ، فلا يمنع من التناول ، فلا يؤدي إلى التناقض ، ولا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار ; لأنه لا يؤمن غدرهم ، إذ العداوة الدينية تحملهم عليه ، إلا إذا اضطروا إليهم والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية