الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك ، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة ، وما يدل على صفة يوم القيامة . أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم ، لزم أن يكون إما غافلا عن ذلك الظالم أو عاجزا عن الانتقام ، أو كان راضيا بذلك الظلم ، ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالا على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفا بالغفلة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا ، كقوله : ( ولا تكونن من المشركين ) [ الأنعام : 14 ] . ( ولا تدع مع الله إلها آخر ) [ القصص : 88 ] وكقوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم ، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوما لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن يكون هذا الكلام وإن كان خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، إلا أنه يكون في الحقيقة خطابا مع الأمة ، وعن سفيان بن عيينة : أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الأولى : أنه تشخص فيه الأبصار . يقال : شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها ، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة .

                                                                                                                                                                                                                                            والصفة الثانية : قوله : ( مهطعين ) وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : قال أبو عبيدة هو الإسراع . يقال : أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع . وعلى هذا الوجه فالمعنى : أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا ، فبين الله تعالى [ ص: 112 ] أن حالهم بخلاف هذا المعتاد ، فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين ، أي مسرعين نحو ذلك البلاء .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني في الإهطاع : قال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : المهطع الساكت .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الرابع : قال الليث : يقال للرجل إذا قر وذل : أهطع .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثالثة : قوله : ( مقنعي رءوسهم ) والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع ، فقوله : ( مقنعي رءوسهم ) أي رافعي رءوسهم . والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه ، فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رءوسهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الرابعة : قوله : ( لا يرتد إليهم طرفهم ) والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص ، فقوله : ( تشخص فيه الأبصار ) [ إبراهيم : 42 ] لا يفيد كون هذا الشخوص دائما ، وقوله : ( لا يرتد إليهم طرفهم ) يفيد دوام هذا الشخوص ، وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الخامسة : قوله : ( وأفئدتهم هواء ) الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفا فقيل : قلب فلان هواء إذا كان خاليا لا قوة فيه ، والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ، ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ، ومن كل سرور لكثرة ما فيه من الحزن . إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا في وقت حصولها فقيل : إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب ، وقيل : إنها تحصل عندما يتميز فريق عن فريق ، والسعداء يذهبون إلى الجنة ، والأشقياء إلى النار . وقيل : بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور ، والأول أولى للدليل الذي ذكرناه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية