الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن وجبت عليه الزكاة وقدر على إخراجها لم يجز له تأخيرها لأنه حق يجب صرفه إلى الآدمي توجهت المطالبة بالدفع إليه فلم يجز له التأخير كالوديعة إذا طالب بها صاحبها ، فإن أخرها وهو قادر على أدائها ضمنها ، لأنه أخر ما يجب عليه مع إمكان الأداء فضمنه كالوديعة ، ومن وجبت عليه الزكاة وامتنع من أدائها نظرت فإن كان جاحدا لوجوبها فقد كفر ويقتل بكفره كما يقتل المرتد ، لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى ضرورة ، فمن جحد وجوبها فقد كذب الله وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم فحكم بكفره ، وإن منعها بخلا بها أخذت منه وعزر . وقال في القديم : تؤخذ الزكاة وشطر ماله عقوبة [ له ] لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ومن منعها فأنا آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ، ليس لآل محمد فيها شيء } والصحيح هو الأول { لقوله صلى الله عليه وسلم : ليس في المال حق سوى الزكاة } ولأنها عبادة فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله كسائر العبادات ، وحديث بهز بن حكيم منسوخ ، فإن ذلك حين كانت العقوبات في الأموال ثم نسخت ، وإن امتنع بمنعة قاتله الإمام " لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة " ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث بهز رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ، وفي رواية النسائي " شطر إبله " ورواية أبي داود " شطر ماله " كما في المهذب ، وإسناده إلى بهز بن حكيم صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وأما بهز فاختلفوا فيه فقال يحيى بن معين " ثقة " وسئل أيضا عنه عن أبيه عن جده " ثقة " وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال أبو زرعة " صالح " وقال الحاكم : " ثقة " وروى البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : هذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت قلنا به ، هذا تصريح من الشافعي بأن أهل الحديث ضعفوا هذا الحديث ، والله أعلم . وأما حديث { ليس في المال حق سوى الزكاة } فضعيف جدا لا يعرف . قال البيهقي في السنن الكبيرة : والذي يرويه أصحابنا في التعاليق : { ليس في المال حق سوى الزكاة } لا أحفظ فيه إسنادا . رواه ابن ماجه لكن بسند [ ص: 305 ] ضعيف ( قلت ) وقد روى الترمذي والبيهقي عن فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : إن في المال حقا سوى الزكاة } لكنه ضعيف ضعفه الترمذي والبيهقي وغيرهما ، والضعف ظاهر في إسناده ، واحتج البيهقي وغيره من المحققين في المسألة بحديث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم { دلني على عمل إذا عملته أدخل الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة ، وتصوم رمضان ، قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ، فلما أدبر قال : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا } رواه البخاري ومسلم ، وفي معناه أحاديث صحيحة مشهورة .

                                      وأما حديث قتال أبي بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة فرواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، وقوله " حق يجب صرفه إلى الآدمي " احتراز من الحج ، وقوله " توجهت المطالبة به " احتراز من الدين المؤجل ، وقوله " جاحدا " قال أهل اللغة : الجحود هو الإنكار بعد الاعتراف ، وقول بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، هو بهز بفتح الباء الموحدة وبالزاي ، ابن حكيم بن معاوية بن حيدة ، بفتح الحاء المهملة القشيري وجده الراوي هو معاوية . وقوله صلى الله عليه وسلم " عزمة " بإسكان الزاي " من عزمات ربنا " بفتحها ومعناه حق لا بد منه ، وفي بعض روايات البيهقي عزيمة بكسر الزاي وزيادة ياء والمشهور عزمة ، وقوله في أول الحديث : " ومن منعها " هكذا هو بالواو ، ومن معطوف على أول الحديث ، فإن أوله { في كل أربعين من الإبل سائمة ابنة لبون من أعطاها مؤتجرا فله أجره ومن منعها فأنا آخذها وشطر ماله } وقد ذكر المصنف أوله في الفصل الرابع من الباب . قوله " امتنع بمنعة " هو بفتح النون على المشهور عند أهل اللغة ، وحكي جواز إسكانها ، والمنعة بالفتح الجماعة المانعون ، ككاتب وكتبة وكافر وكفرة ونظائره ، ومن سكن فمعناه بقوة امتناع ، وقتال أبي بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة كان في أول خلافته سنة إحدى عشرة من الهجرة .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) أن الزكاة عندنا يجب إخراجها على الفور ، فإذا وجبت وتمكن [ ص: 306 ] من إخراجها لم يجز تأخيرها ، وإن لم يتمكن فله التأخير إلى التمكن ، فإن أخر بعد التمكن عصى وصار ضامنا ; فلو تلف المال كله بعد ذلك لزمته الزكاة ، سواء تلف بعد مطالبة الساعي أو الفقراء أم قبل ذلك ، وهذا لا خلاف فيه . وإن تلف المال بعد الحول وقبل التمكن فلا إثم ولا ضمان عليه بلا خلاف ، وإن أتلفه المالك لزمه الضمان ، وإن أتلفه أجنبي بنى على القولين في أن التمكن شرط في الوجوب أم في الضمان ؟ وسيأتي إيضاحها بتفريعها في آخر الباب الثاني حيث ذكرهما المصنف إن شاء الله تعالى ، إن قلنا شرط في الوجوب فلا زكاة ، وإن قلنا : شرط في الضمان - وقلنا الزكاة تتعلق بالذمة - فلا زكاة ، وإن قلنا : تتعلق بالعين انتقل حق الفقراء إلى القيمة كما إذا قتل العبد أو المرهون فإنه ينتقل حق المجني عليه والمرتهن إلى القيمة .

                                      قال أصحابنا : وليس المراد بإمكان الأداء مجرد إمكان الإخراج ، بل يشترط معه وجوب الإخراج بثلاثة شروط ( أحدها ) حضور المال عنده ، فإن غاب عنه لم يجب الإخراج من موضع آخر بالاتفاق وإن جوزنا نقل الزكاة ، ( والثاني ) أن يجد المصروف إليه ، وسيأتي في قسم الصدقات أن الأموال باطنة وظاهرة ، فالباطنة يجوز صرف زكاتها بنفسه وبوكيله وبالسلطان والساعي فيكون واجدا للمصروف إليه ، سواء وجد أهل السهمان أو السلطان أو نائبه . وأما الظاهرة فكذلك إن قلنا بالأصح أنه له تفريقها بنفسه ، وإلا فلا إمكان حتى يجد السلطان أو نائبه ، ولو وجد من يجوز الصرف إليه فأخر لطلب الأفضل بأن وجد السلطان أو نائبه فأخر ليفرق بنفسه حيث جعلناه أفضل ، أو أخر لانتظار قريب أو جار أو من هو أحوج ، ففي جواز التأخير وجهان مشهوران أصحهما جوازه . فإن لم نجوز التأخير فأخر أثم وضمن ، وإن جوزناه فتلف المال فهل يضمن ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) يكون ضامنا لوجود التمكن .

                                      ( والثاني ) لا ، لأنه مأذون له في التأخير ، قال إمام الحرمين : للوجهين شرطان ( أحدهما ) أن يظهر استحقاق الحاضرين ، فإن تشكك في استحقاقهم فأخر ليتروى جاز بلا خلاف ، ( والثاني ) ألا يستفحل ضرر الحاضرين وفاقتهم ; [ ص: 307 ] فإن تضرروا بالجوع ونحوه لم يجز التأخير للقريب وشبهه بلا خلاف . قال الرافعي : في هذا الشرط الثاني نظر لأن إشباعهم لا يتعين على هذا الشخص ، ولا من هذا المال ولا من مال الزكاة ، وهذا الذي قاله الرافعي باطل والصواب ما ذكره إمام الحرمين لأنه وإن لم يتعين هذا المال لهؤلاء المحتاجين فدفع ضرورتهم فرض كفاية ، فلا يجوز إهماله لانتظار فضيلة لو لم يعارضها شيء ( الشرط الثالث ) أن لا يكون مشتغلا بهم من أمر دينه أو دنياه كصلاة وأكل ونحوهما ذكره البغوي وغيره والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) إذا امتنع من أداء الزكاة منكرا لوجوبها فإن كان ممن يخفى عليه ذلك ، لكونه قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة أو نحو ذلك - لم يحكم بكفره ، بل يعرف وجوبها وتؤخذ منه ، فإن جحدها بعد ذلك حكم بكفره ، ( فإن قيل ) : كيف أهمل المصنف التنبيه على أنه إنما يكفر إذا نشأ مسلما بين المسلمين ؟ ( فالجواب ) أنه لم يهمله ، بل نبه عليه بقوله : جاحدا لوجوبها ، قال أهل اللغة : الجحد إنكار ما اعترف به المنكر . قال ابن فارس في المجمل : لا يكون الجحود إلا مع علم الجاحد به والله أعلم . وإن كان ممن لا يخفى كمسلم مختلط بالمسلمين صار بجحدها كافرا ، وجرت عليه أحكام المرتدين من الاستتابة والقتل وغيرهما ، ودليله ما ذكره المصنف وقد سبق في أول كتاب الصلاة بيان ما يكفر بجحده وغير ذلك مما يتعلق بهذا .



                                      ( الثالثة ) إذا منع الزكاة بخلا بها وأخفاها ، مع اعترافه بوجوبها لم يكفر بلا خلاف ، ولا يجيء فيه الوجه السابق في الكتاب في الممتنع من الصلاة ، مع اعتقاد وجوبها أنه يكفر ، والفرق أن هناك أحاديث تقتضي الكفر بخلاف هذا ، ولكن يعزر وتؤخذ منه قهرا ، كما إذا امتنع من دين آدمي . قال الشافعي رحمه الله في المختصر والأصحاب كلهم : إنما يعزر مخفيها ومانعها إذا لم يكن له عذر في إخفائها ومنعها بأن كان الإمام عادلا يصرفها في وجوهها بعد أخذها على وجهها فإن كان عذره بأن كان الإمام جائرا بأن يأخذ فوق الواجب أو يضعها في غير مواضعها ، فإنها تؤخذ منه ولا يعزر [ ص: 308 ] لأنه معذور وإذا منعها حيث لا عذر أخذت منه قهرا كما ذكرناه ، وهل يؤخذ معها نصف ماله عقوبة له ؟ فيه طريقان .

                                      ( أحدهما ) القطع بأنه لا يؤخذ ، وممن صرح بهذا الطريق القاضي أبو الطيب في تعليقه والماوردي والمحاملي في كتبه الثلاثة ، والمصنف في التنبيه ، وآخرون ، وحكوا الأخذ عن مالك ، قيل : وليس هو مذهبه أيضا .

                                      ( والطريق الثاني ) وهو المشهور : وبه قطع المصنف هنا والأكثرون : فيه قولان ( الجديد ) لا يؤخذ ( والقديم ) يؤخذ ، وذكر المصنف دليلهما ، واتفق الأصحاب على أن الصحيح أنه لا يؤخذ ، وأجابوا هم والشافعي والبيهقي في معرفة السنن والآثار عن حديث بهز بن حكيم بأنه منسوخ ، وأنه كان حين كانت العقوبة بالمال كما ذكره المصنف وهذا الجواب ضعيف لوجهين : .

                                      ( أحدهما ) إن ما ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف .

                                      ( والثاني ) أن النسخ إنما يصار إليه إذا علم التاريخ ، وليس هنا علم بذلك ، ( والجواب ) الصحيح تضعيف الحديث ، كما سبق عن الشافعي رضي الله عنه وأبي حاتم والله أعلم .



                                      ( الرابعة ) إذا منع واحد أو جمع الزكاة وامتنعوا بالقتال ، وجب على الإمام قتالهم لما ذكره المصنف ، وثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا أولا في قتال مانعي الزكاة ، ورأى أبو بكر رضي الله عنه قتالهم واستدل عليهم فلما ظهرت لهم الدلائل وافقوه فصار قتالهم مجمعا عليه ، وقد نقل المصنف في كتابه وغيره من الأصوليين الاتفاق على أن الصحابة إذا اختلفوا ثم أجمعوا على أحد القولين قبل أن يستقر الخلاف كان ذلك إجماعا ، ومثلوه بقصة خلافهم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم إجماعهم والله أعلم .



                                      فرع : في مذاهب العلماء في تأخير الزكاة قد ذكرنا أن مذهبنا أنها إذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها وجب الإخراج على الفور فإن أخرها أثم ، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء نقله العبدري عن أكثرهم ، ونقل أصحابنا عن أبي حنيفة أنها على التراخي [ ص: 309 ] وله التأخير قال العبدري : اختلف أصحاب أبي حنيفة فيها ، فقال الكرخي : على الفور ، وقال أبو بكر الرازي : على التراخي . دليلنا قوله تعالى { : وآتوا الزكاة } . والأمر عندهم على الفور ، وكذا عند بعض أصحابنا . احتجوا بأنه لم يطالب فأشبه غير المتمكن ، قال الأصحاب : يجب الفرق بين التمكن وعدمه ، كما في الصوم والصلاة .



                                      ( فرع ) : إذا وجبت الزكاة وتمكن من أدائها ثم مات لم تسقط بموته عندنا ، بل يجب إخراجها من ماله عندنا ، وهو مذهب عطاء والحسن البصري والزهري وقتادة وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر وداود . وحكى ابن المنذر عن ابن سيرين والشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان وداود بن أبي هند وحميد الطويل وعثمان البتي وسفيان الثوري : إن أوصى بها أخرجت من ماله كسائر الوصايا ، وإن لم يوص لم يلزم الورثة إخراجها ، وحكي عن الليث والأوزاعي أنها تخرج من ماله قبل الوصايا بحيث لا يتجاوز الثلث ، وقال أبو حنيفة وسائر أهل الرأي : تسقط بموته ولا يلزم الورثة إخراجها ; وإن أخرجوها فصدقة تطوع إلا أن يوصى بها فتخرج ، وتكون من الثلث ، فإن وصى معها بوصايا وضاق الثلث عنها مع الوصايا ، قال أبو حنيفة : هي والوصايا سواء دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم { فدين الله أحق أن يقضى } " وهو ثابت في الصحيحين . واحتجوا بأنها عبادة محضة شرطها النية فسقطت بالموت كالصلاة ، وأجاب أصحابنا بأنها لا تصح الوصية بالصلاة ولا تدخلها النيابة بخلاف الزكاة .



                                      ( فرع ) : فيمن أخفى ماله ومنع الزكاة ثم ظهر عليه قد ذكرنا أن مذهبنا أنه تؤخذ منه الزكاة ولا يؤخذ شطر ماله ، وبه قال مالك وأبو حنيفة قال العبدري : وبه قال أكثر العلماء ، وقال أحمد : تؤخذ منه الزكاة ونصف ماله عقوبة له ، وهو قول قديم لنا كما سبق .



                                      ( فرع ) : إذا مضت عليه سنون ، ولم يؤد زكاتها لزمه إخراج الزكاة عن جميعها سواء علم وجوب الزكاة أم لا ، وسواء كان في دار الإسلام أم [ ص: 310 ] دار الحرب ، هذا مذهبنا ، قال ابن المنذر : لو غلب أهل البغي على بلد ولم يؤد أهل ذلك البلد الزكاة أعواما ، ثم ظفر بهم الإمام أخذ منهم زكاة الماضي في قول مالك والشافعي وأبي ثور . قال : وقال أصحاب الرأي : لا زكاة عليهم لما مضى . وقال أصحاب الرأي : لو أسلم قوم في دار الحرب وأقاموا سنين ثم خرجوا إلى دار الإسلام لا زكاة عليهم لما مضى . والله أعلم .



                                      ( فرع ) : قال أبو عاصم العبادي في كتابه الزيادات : لو استقرت عليه زكاة ثم مرض ولا مال . فينبغي أن ينوي أنه يؤدي الزكاة إن قدر ولا يقترض . وقال شاذان بن إبراهيم : يقترض لأن دين الله أحق بالقضاء . قال : فإن اقترض ودفع الزكاة ونوى الوفاء إذا تمكن فهو معذور بالاتفاق .




                                      الخدمات العلمية