الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ( 15 ) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ( 16 ) )

يقول تعالى ذكره : إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية ( أكاد أخفيها ) فعلى ضم الألف من أخفيها قراءة جميع قراء أمصار الإسلام ، بمعنى : أكاد أخفيها من نفسي ، لئلا يطلع عليها أحد ، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( أكاد أخفيها ) يقول : لا أظهر عليها أحدا غيري .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) قال : لا تأتيكم إلا بغتة .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) قال : من نفسي .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( أكاد أخفيها ) قال : من نفسي .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( أكاد أخفيها ) قال : من نفسي .

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا محمد بن عبيد الطنافسي ، قال : [ ص: 286 ] ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله ( أكاد أخفيها ) قال : يخفيها من نفسه .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( أكاد أخفيها ) وهي في بعض القراءة : أخفيها من نفسي . ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ، ومن الأنبياء المرسلين .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : في بعض الحروف : "إن الساعة آتيه أكاد أخفيها من نفسي" .

وقال آخرون : إنما هو : ( أكاد أخفيها ) بفتح الألف من أخفيها بمعنى : أظهرها .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا محمد بن سهل ، قال : سألني رجل في المسجد عن هذا البيت .


داب شهرين ثم شهرا دميكا بأريكين يخفيان غميرا



فقلت : يظهران ، فقال ورقاء بن إياس وهو خلفي : أقرأنيها سعيد بن جبير ( أكاد أخفيها ) بنصب الألف ، وقد روي عن سعيد بن جبير وفاق قول الآخرين الذين قالوا : معناه : أكاد أخفيها من نفسي .

ذكر الرواية عنه بذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن مجاهد ، قالا ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) قالا من نفسي .

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ( أكاد أخفيها ) قال : من نفسي . [ ص: 287 ]

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الآية من القول ، قول من قال : معناه : أكاد أخفيها من نفسي ، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء ، والذي ذكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلا مستفيضا .

فإن قال قائل : ولم وجهت تأويل قوله ( أكاد أخفيها ) بضم الألف إلى معنى : أكاد أخفيها من نفسي ، دون توجيهه إلى معنى : أكاد أظهرها ، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين : أحدهما الإظهار ، والآخر الكتمان ، وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام ، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه ، إذ كان محالا أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم ، والله تعالى ذكره لا يخفى عليه خافية؟ قيل : الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت ، وإنما وجهنا معنى ( أخفيها ) بضم الألف إلى معنى : أسترها من نفسي ، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب : الستر . يقال : قد أخفيت الشيء : إذا سترته ، وأن الذين وجهوا معناه إلى الإظهار ، اعتمدوا على بيت لامرئ القيس بن عابس الكندي .

حدثت عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب ، عن أهله في بلده :


فإن تدفنوا الداء لا نخفه     وإن تبعثوا الحرب لا نقعد



بضم النون من لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره ، فكان اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت ، على ما وصفت [ ص: 288 ] من ضم النون من نخفه ، وقد أنشدني الثقة عن الفراء :


فإن تدفنوا الداء لا نخفه



بفتح النون من نخفه ، من خفيته أخفيه ، وهو أولى بالصواب لأنه المعروف من كلام العرب .

فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الفتح في الألف من أخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا ، ثبت وصح الوجه الآخر ، وهو أن معنى ذلك . أكاد استرها من نفسي .

وأما وجه صحة القول في ذلك ، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم ، فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسر : قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدة استسراري به ، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته ، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم ، وما قد عرفوه في منطقهم وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا . وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين ، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم ، فيما استفاض القول به منهم ، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر ، فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب ، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين ، وعلى وجه يحتمل الكلام من غير وجهه المعروف ، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم ، فقال بعضهم : يحتمل معناه : أريد أخفيها ، قال : وذلك معروف في اللغة ، وذكر أنه حكي عن العرب أنهم يقولون : أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم ، وقال : معناه : لا أنزل إلا عليهم . قال : وحكي : أكاد أبرح منزلي : أي ما أبرح منزلي ، واحتج ببيت أنشده لبعض الشعراء :


كادت وكدت وتلك خير إرادة     لو عاد من عهد الصبابة ما مضى

[ ص: 289 ]

وقال : يريد : بكادت : أرادت ، قال : فيكون المعنى : أريد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى . قال : ومما يشبه ذلك قول زيد الخيل :


سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه     فما أن تكاد قرنه يتنفس



وقال : كأنه قال : فما يتنفس قرنه ، وإلا ضعف المعنى; قال : وقال ذو الرمة :


إذا غير النأي المحبين لم يكد     رسيس الهوى من حب مية يبرح



قال : وليس المعنى : لم يكد يبرح : أي بعد يسر ، ويبرح بعد عسر; وإنما [ ص: 290 ] المعنى : لم يبرح ، أو لم يرد يبرح ، وإلا ضعف المعنى; قال : وكذلك قول أبي النجم :


وإن أتاك نعي فاندبن أبا     قد كاد يضطلع الأعداء والخطبا



وقال : يكون المعنى : قد اضطلع الأعداء ، وإلا لم يكن مدحا إذا أراد كاد ولم يرد يفعل .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الساعة آتية أكاد ، قال : وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه : أكاد أن آتي بها ، قال : ثم ابتدأ فقال : ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ، قال : وذلك نظير قول ابن ضابي :


هممت ولم أفعل وكدت وليتني     تركت على عثمان تبكي أقاربه



فقال : كدت ، ومعناه : كدت أفعل .

وقال آخرون : معنى ( أخفيها ) أظهرها ، وقالوا : الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار ، واستشهد بعضهم لقيله ذلك ببيت الفرزدق : [ ص: 291 ]


فلما رأى الحجاج جرد سيفه     أسر الحروري الذي كان أضمرا



وقال : عنى بقوله : أسر : أظهر . قال : وقد يجوز أن يكون معنى قوله ( وأسروا الندامة ) وأظهروها ، قال : وذلك أنهم قالوا : ( يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ) . وقال جميع هؤلاء الذين حكينا قولهم جائز أن يكون قول من قال : معنى ذلك : أكاد أخفيها من نفسي ، أن يكون أراد : أخفيها من قبلي ومن عندي ، وكل هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا توجيه منهم للكلام إلى غير وجهه المعروف ، وغير جائز توجيه معاني كلام الله إلى غير الأغلب عليه من وجوهه عند المخاطبين به ، ففي ذلك مع خلافهم تأويل أهل العلم فيه شاهد عدل على خطأ ما ذهبوا إليه فيه .

وقوله ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) يقول تعالى ذكره : إن الساعة آتية لتجزى كل نفس : يقول : لتثاب كل نفس امتحنها ربها بالعبادة في الدنيا بما تسعى ، يقول : بما تعمل من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، وقوله ( فلا يصدنك عنها ) يقول تعالى ذكره : فلا يردنك يا موسى عن التأهب للساعة ، من لا يؤمن بها ، يعني : من لا يقر بقيام الساعة ، ولا يصدق بالبعث بعد الممات ، ولا يرجو ثوابا ، ولا يخاف عقابا . وقوله ( واتبع هواه ) يقول : اتبع هوى نفسه ، وخالف أمر الله ونهيه ( فتردى ) يقول : فتهلك إن أنت انصددت عن التأهب للساعة ، وعن الإيمان بها ، وبأن الله باعث الخلق لقيامها من قبورهم بعد فنائهم بصد من كفر بها ، وكان بعضهم يزعم أن الهاء والألف من قوله ( فلا يصدنك عنها ) كناية عن ذكر الإيمان ، قال : وإنما قيل عنها وهي كناية [ ص: 292 ] عن الإيمان كما قيل ( إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) يذهب إلى الفعلة ، ولم يجر للإيمان ذكر في هذا الموضع ، فيجعل ذلك من ذكره ، وإنما جرى ذكر الساعة ، فهو بأن يكون من ذكرها أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية