الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في الجنس الثالث

[ أحكام الأفعال ]

وهو الذي يتضمن القول في الأحكام ، وقد نفى القول في حكم الاختلالات التي تقع في الحج ، وأعظمها في حكم من شرع في الحج فمنعه بمرض أو بعدو أو فاته وقت الفعل الذي هو شرط في صحة الحج أو أفسد حجه بإتيانه بعض المحظورات المفسدة للحج أو للأفعال التي هي تروك أو أفعال ، فلنبتدئ من هذه بما هو نص في الشريعة وهو : حكم المحصر ، وحكم قاتل الصيد ، وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق ، وإلقائه التفث قبل أن يحل ، وقد يدخل في هذا الباب حكم المتمتع ، وحكم القارن على القول بأن وجوب الهدي في هذه هو لمكان الرخصة .

القول في الإحصار

وأما الإحصار : فالأصل فيه قوله - سبحانه - : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) إلى قوله : ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) فنقول : اختلف العلماء في هذه الآية اختلافا كثيرا ، وهو السبب في اختلافهم في حكم المحصر بمرض أو بعدو .

فأول اختلافهم في هذه الآية : هل المحصر هاهنا هو المحصر بالمرض ؟ فقال قوم : المحصر هاهنا هو المحصر بالعدو ، وقال آخرون : بل المحصر هاهنا هو الحصر بالمرض .

فأما من قال : إن المحصر هاهنا هو المحصر بالعدو فاحتجوا بقوله - تعالى - : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ) [ ص: 293 ] قالوا : فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة ، واحتجوا أيضا بقوله - سبحانه - : ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) وهذه حجة ظاهرة .

ومن قال : إن الآية إنما وردت في المحصر بالمرض فإنه زعم أن المحصر هو من أحصر ، ولا يقال : أحصر في العدو ، وإنما يقال حصره العدو وأحصره المرض ، قالوا : وإنما ذكر المرض بعد ذلك لأن المرض صنفان : صنف محصر ، وصنف غير محصر ، وقالوا : معنى قوله : ( فإذا أمنتم ) معناه من المرض .

وأما الفريق الأول فقالوا عكس هذا ، وهو أن أفعل أبدا وفعل في الشيء الواحد إنما يأتي لمعنيين ، إما فعل فإذا أوقع بغيره فعلا من الأفعال ، وإما أفعل فإذا عرضه لوقوع ذلك الفعل به يقال : قتله إذا فعل به فعل القتل ، وأقتله إذا عرضه للقتل ، وإذا كان هذا هكذا فأحصر أحق بالعدو ، وحصر أحق بالمرض ; لأن العدو إنما عرض للإحصار ، والمرض فهو فاعل الإحصار . وقالوا لا يطلق الأمن إلا في ارتفاع الخوف من العدو ، وإن قيل في المرض فباستعارة ، ولا يصار إلى الاستعارة إلا لأمر يوجب الخروج عن الحقيقة ، وكذلك ذكر حكم المريض بعد الحصر الظاهر منه أن المحصر غير المريض ، وهذا هو مذهب الشافعي . والمذهب الثاني مذهب مالك وأبي حنيفة .

وقال قوم : بل المحصر هاهنا الممنوع من الحج بأي نوع امتنع : إما بمرض ، أو بعدو ، أو بخطإ في العدد ، أو بغير ذلك .

وجمهور العلماء على أن المحصر عن الحج ضربان : إما محصر بمرض ، وإما محصر بعدو .

فأما المحصر بالعدو : فاتفق الجمهور على أنه يحل من عمرته أو حجه حيث أحصر . وقال الثوري والحسن بن صالح لا يتحلل إلا في يوم النحر .

والذين قالوا : يتحلل حيث أحصر ، اختلفوا في إيجاب الهدي عليه ، وفي موضع نحره إذا قيل بوجوبه ، وفي إعادة ما حصر عنه من حج أو عمرة ، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه هدي ، وأنه إن كان معه هدي نحره حيث حل . وذهب الشافعي إلى إيجاب الهدي عليه ، وبه قال أشهب . واشترط أبو حنيفة ذبحه في الحرم . وقال الشافعي : حيثما حل .

وأما الإعادة : فإن مالكا يرى أن لا إعادة عليه . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان أحرم بالحج عليه حجة وعمرة ، وإن كان قارنا فعليه حج وعمرتان ، وإن كان معتمرا قضى عمرته ، وليس عليه عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن تقصير ، واختار أبو يوسف تقصيره .

وعمدة مالك في أن لا إعادة عليه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حل هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رءوسهم ، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوف بالبيت ، وقبل أن يصل إلى الهدي ، ثم لم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدا من الصحابة ولا ممن كان معه أن يقضي شيئا ولا أن يعود لشيء .

وعمدة من أوجب عليه الإعادة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في العام المقبل من عام الحديبية قضاء لتلك العمرة . ولذلك قيل لها : عمرة القضاء . وإجماعهم أيضا على أن المحصر بمرض أو ما أشبهه عليه القضاء .

[ ص: 294 ] فسبب الخلاف هو : هل قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يقض ؟ وهل يثبت القضاء بالقياس أم لا ؟ وذلك أن جمهور العلماء على أن القضاء يجب بأمر ثان غير أمر الأداء . وأما من أوجب عليه الهدي فبناء على أن الآية وردت في المحصر بالعدو ، أو على أنها عامة لأن الهدي فيها نص ، وقد احتج هؤلاء بنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الهدي عام الحديبية حين أحصروا . وأجاب الفريق الآخر أن ذلك الهدي لم يكن هدي تحلل ، وإنما كان هديا سيق ابتداء ، وحجة هؤلاء أن الأصل هو أن لا هدي عليه إلا أن يقوم الدليل .

وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه : فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه عام الحديبية ، فقال ابن إسحاق : نحره في الحرم ، وقال غيره : إنما نحره في الحل ، واحتج بقوله - تعالى - : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . وإنما ذهب أبو حنيفة إلى أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة ; لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ، ولم يتم واحدا منهما . فهذا هو حكم المحصر بعدو عند الفقهاء .

وأما المحصر بمرض : فإن مذهب الشافعي وأهل الحجاز أنه لا يحله إلا الطواف بالبيت والسعي ما بين الصفا والمروة ، وأنه بالجملة يتحلل بعمرة ، لأنه إذا فاته الحج بطول مرضه انقلب عمرة ، وهو مذهب ابن عمر وعائشة وابن عباس ، وخالف في ذلك أهل العراق فقالوا : يحل مكانه وحكمه حكم المحصر بعدو - أعني : أن يرسل هديه ويقدر يوم نحره ويحل في اليوم الثالث - وبه قال ابن مسعود . واحتجوا بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى " . وبإجماعهم على أن المحصر بعدو ليس من شرط إحلاله الطواف بالبيت ، والجمهور على أن المحصر بمرض عليه الهدي . وقال أبو ثور وداود : لا هدي عليه اعتمادا على ظاهر حكم هذا المحصر ، وعلى أن الآية الواردة في المحصر هو حصر العدو .

وأجمعوا على إيجاب القضاء عليه ، وكل من فاته الحج بخطإ من العدد في الأيام ، أو بخفاء الهلال عليه ، أو غير ذلك من الأعذار ; فحكمه حكم المحصر بمرض عند مالك . وقال أبو حنيفة : من فاته الحج بعذر غير مرض يحل بعمرة ولا هدي عليه وعليه إعادة الحج . والمكي المحصر بمرض عند مالك كغير المكي يحل بعمرة ، وعليه الهدي وإعادة الحج ، وقال الزهري : لا بد أن يقف بعمرة وإن نعش نعشا .

وأصل مذهب مالك أن المحصر بمرض إن بقي على إحرامه إلى العام المقبل حتى يحج حجة القضاء فلا هدي عليه ، فإن تحلل بعمرة فعليه هدي المحصر ، لأنه حلق رأسه قبل أن ينحر في حجة القضاء ، وكل من تأول قوله - سبحانه - : ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) أنه خطاب للمحصر ، وجب عليه أن يعتقد على ظاهر الآية أن عليه هديين : هديا لحلقه عند التحلل قبل نحره في حجة القضاء ، وهديا لتمتعه بالعمرة إلى الحج ، وإن حل في أشهر الحج من العمرة وجب عليه هدي ثالث ، وهو هدي التمتع الذي هو أحد أنواع نسك الحج .

وأما مالك - رحمه الله - فكان يتأول لمكان هذا أن المحصر إنما عليه هدي واحد ، وكان يقول : إن الهدي الذي في قوله - سبحانه - : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) هو بعينه الهدي الذي في قوله : ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) وفيه بعد في التأويل ، والأظهر أن قوله - سبحانه - : ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) [ ص: 295 ] أنه في غير المحصر بل هو في التمتع الحقيقي ، فكأنه قال : فإذا لم تكونوا خائفين لكن تمتعتم بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ، ويدل على هذا التأويل قوله - سبحانه - : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) . والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع .

وقد قلنا في أحكام المحصر الذي نص الله عليه ، فلنقل في أحكام القاتل للصيد :

التالي السابق


الخدمات العلمية