الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            [ ص: 384 ] سورة المدثر

            مسألة : في قوله سبحانه وتعالى : ( والصبح إذا أسفر ) هل له تعلق بضوء الشمس أم لا ؟ وهل للنهار ضوء غير ضوء الشمس مختص به أم لا نور له ولا ضوء أصلا ؟ وما معنى قوله تعالى : ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) ؟ وهل الوارد في الحديث : أن الله تعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم فجزأه أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول العرش ، وخلق من الجزء الثاني القلم ، وخلق من الثالث اللوح ، ثم قسم الجزء الرابع وجزأه أربعة أجزاء ، وخلق من الجزء الأول العقل ، وخلق من الجزء الثاني المعرفة ، وخلق من الجزء الثالث نور الشمس والقمر ونور الأبصار ونور النهار ، وجعل الجزء الرابع تحت ساق العرش مدخورا يقتضي أن نور الشمس غير نور النهار أم لا ؟ وهل قال قائل : إن المراد بقوله تعالى : ( والشمس وضحاها ) أن الضحى هنا هو النهار في قوله تعالى : ( والنهار إذا جلاها ) ؟ وهل هما غيران أم لا ؟ أفتونا مأجورين وابسطوا الجواب أثابكم الله الجنة .

            الجواب : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، الصبح في اللغة : هو الفجر كذا في الصحاح ، وأسفر معناه : أضاء ، كذا أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن قتادة ، وإذا تعلق بهذين الأمرين لم يكن للآية تعلق بضوء الشمس ، ومقتضى الأدلة من الأحاديث والآثار ، وكلام الأئمة في تفسير الآيات ، وكلام أهل اللغة مختلف ، منه ما يشهد ؛ لأن النهار نوره غير نور الشمس ، ومنه ما يشهد لأن نوره نورها ، فمن الأول ما أخرجه ابن جرير في تفسيره عن السدي في قوله تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) قال : الظلمات : ظلمة الليل ، والنور : نور النهار ، فهذا تصريح بأن النهار له نور حيث أضافه إليه وقابله بظلمة الليل ، وليس سببه الشمس كما أن ظلمة الليل ليس لها سبب نشأت عنه ، وأخرج ابن جرير عن قتادة في الآية قال : خلق الله السماوات قبل الأرض ، وخلق الظلمة قبل النور وخلق الجنة قبل النار ، وأخرج ابن المنذر عن أبي عبيد في الآية قال : النور الضوء ، فهذان صريحان في أن المراد بالنور ضوء خلقه الله على حياله لا تعلق له بالشمس ولا بغيرها ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن عكرمة قال : سئل [ ص: 385 ] ابن عباس : الليل كان قبل النهار ؟ فقرأ ابن عباس : ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ) قال : فالرتق : الظلمة ، الليل كان قبل النهار . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى : ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) ، فكما أن الليل كان يسمى ليلا قبل خلق القمر فيه ، كذلك كان يسمى النهار نهارا قبل خلق الشمس ، واستمرت التسمية في الليل والنهار بعد خلق القمر والشمس ، فالنهار على هذا غير الشمس ، وضوؤها غير نورها ، وقال الكرماني القديم في تفسيره في سورة الأنعام في قوله : ( وجعل الظلمات والنور ) جمع الظلمات لأنها تحدث عن أشياء كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر ، ووحد النور لأنه متحد الوصف ، وهو ما يرى ويرى به ، وأعظم دليل على أن النهار له نور يخصه لا تعلق له بالشمس أن الجنة فيها نهار بلا شمس ، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن شعيب بن الحجام قال : خرجت أنا وأبو الغالب الرياحي قبل طلوع الشمس ، فقال : نبئت أن الجنة هكذا . وقد وردت آثار بأن الأيام على عدتها أجسام مخلوقة تتكلم وتحشر ، كأثر : ما من يوم ينقضي من الدنيا إلا قال ذلك اليوم : الحمد لله الذي أخرجني من الدنيا وأهلها ، ثم يطوى عليه فيختم إلى يوم القيامة حتى يكون الله هو الذي يفض خاتمه . أخرجه أبو نعيم في الحلية عن مجاهد ، وروى ابن خزيمة والحاكم في المستدرك حديث : تحشر الأيام على هيئتها ، وتحشر الجمعة زهراء منيرة ، أهلها يحفون بها كالعروس ، تضيء لهم ، يمشون في ضوئها . فهذه كلها تدل على أن النهار له ضوء يخصه ، لا تعلق له بالشمس ، لكن عارض هذا أن ابن جرير قال في تفسيره : اختلف أهل التأويل في قوله تعالى : ( والشمس وضحاها ) فقال قتادة : معنى ذلك : والشمس والنهار ، وكان يقول : الضحى هو النهار كله ، وقال مجاهد : وضحاها : وضوئها . قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إن الله تعالى أقسم بالشمس ونهارها لأن ضوء الشمس الظاهرة هو النهار . هذه عبارة ابن جرير ، وهي صريحة في أن النهار هو ضوء الشمس ، وقال الكرماني القديم في تفسيره ما نصه : والشمس سراج النهار بالإجماع ، وضحاها : ارتفاعها وضوؤها وحرها ، وقيل : هو النهار كله ، ثم قال : ( والنهار إذا جلاها ) أي : جلى الظلمة ، وقيل : جلا الشمس ؛ لأنها تظهر بالنهار ، وإن كان النهار من ضوئها . هذه عبارته ، وهي أيضا [ ص: 386 ] صريحة في أن النهار من ضوء الشمس .

            وقال الراغب : الصبح والصباح أول النهار ، وهو وقت ما احمر الأفق بحاجب الشمس . فأسند نور الصباح والنهار إلى الشمس . وقد وردت آثار كثيرة استوفيتها في التفسير المأثور شاهدة للقولين معا ، ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها ، وفيها ما يدل على أن الفجر أيضا من نور الشمس ، وفيها ما يدل على خلافه .

            والحديث المذكور في السؤال ليس له إسناد يعتمد عليه ، وقول السائل : وهل قال قائل . . . إلى آخره ؟ قد حكيناه فيما تقدم عن قتادة ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية