الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وهي معضلة اختلف العلماء فيها : فقيل : هو الزوج ; قاله علي وشريح وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم ومجاهد والثوري ، واختاره أبو حنيفة والشافعي في أصح قوليه .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 294 ] ومنهم من قال : إنه الولي ; قاله ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وطاوس ، وعطاء ، وأبو الزناد ، وزيد بن أسلم ، وربيعة ، وعلقمة ، ومحمد بن كعب ، وابن شهاب ، وأسود بن يزيد ، وشريح الكندي ، والشعبي ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                              واحتج من قال : إنه الزوج بوجوه كثيرة ، لبابها ثلاثة : الأول : أن الله تعالى ذكر الصداق في هذه الآية ذكرا مجملا من الزوجين ، فحمل على المفسر في غيرها ، وقد قال الله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } فأذن الله تعالى للزوج في قبول الصداق إذا طابت نفس المرأة بتركه .

                                                                                                                                                                                                              وقال أيضا : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا }

                                                                                                                                                                                                              فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ مما أتى المرأة إن أراد طلاقها .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : قوله تعالى : { إلا أن يعفون } يعني النساء ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح : يعني الزوج ، معناه يبذل جميع الصداق ، يقال : عفا بمعنى بذل ، كما يقال : عفا بمعنى أسقط .

                                                                                                                                                                                                              ومعنى ذلك وحكمته : أن المرأة إذا أسقطت ما وجب لها من نصف الصداق تقول هي : لم ينل مني شيئا ولا أدرك ما بذل فيه هذا المال بإسقاطه ، وقد وجب إبقاء للمروءة واتقاء في الديانة . ويقول الزوج : أنا أترك المال لها لأني قد نلت الحل وابتذلتها بالطلاق فتركه أقرب للتقوى ، وأخلص من اللائمة .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه تعالى قال : { ولا تنسوا الفضل بينكم } وليس لأحد في هبة مال لآخر فضل ; وإنما ذلك فيما يهبه المفضل من مال نفسه ، وليس للولي حق في الصداق .

                                                                                                                                                                                                              واحتج من قال : إنه الولي بوجوه كثيرة ; نخبتها أربعة : الأول : قالوا الذي بيده عقدة النكاح الولي ; لأن الزوج قد طلق ; فليس بيده [ ص: 295 ] عقدة ، ومنه قوله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } وهذا يستمر مع الشافعي دون أبي حنيفة الذي لا يرى عقدة النكاح للولي .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه لو أراد الأزواج لقال : إلا أن تعفوا أو تعفون ، فلما عدل من مخاطبة الحاضر المبدوء به في أول الكلام إلى لفظ الغائب دل على أن المراد به غيره .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنه تعالى قال : { إلا أن يعفون } يعني يسقطن .

                                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } لا يتصور الإسقاط فيه إلا من الولي ; فيكون معنى اللفظ الثاني هو معنى اللفظ الأول بعينه ، وذلك أنظم للكلام .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنه تعالى قال : { إلا أن يعفون } يعني يسقطن ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعني يسقط ; فيرجع القول إلى النصف الواجب بالطلاق الذي تسقطه المرأة ، فأما النصف الذي لم يجب فلم يجر له ذكر .

                                                                                                                                                                                                              المسألة السابعة : في المختار : والذي تحقق عندي بعد البحث والسبر أن الأظهر هو الولي لثلاثة أوجه : أحدها : أن الله تعالى قال في أول الآية : { ثم طلقتموهن } إلى قوله تعالى : { وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب ، ثم قال : { إلا أن يعفون } فذكر النسوان { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } فهذا ثالث ; فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود ، وقد وجد وهو الولي ، فلا يجوز بعد هذا إسقاط التقدير بجعل الثلاث اثنين من غير ضرورة .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن الله تعالى قال : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ولا إشكال في أن الزوج بيده عقدة النكاح لنفسه ، والولي بيده عقدة النكاح لوليته ، على القول بأن الذي يباشر العقد الولي ; فهذه المسألة هي أصول العفو مع أبي حنيفة ، وقد بيناها قبل ، وشرحناها في مسائل الخلاف .

                                                                                                                                                                                                              فقد ثبت بهذا أن الولي بيده عقدة النكاح ، فهو المراد ; لأن الزوجين يتراضيان فلا [ ص: 296 ] ينعقد لهما أمر إلا بالولي ، بخلاف سائر العقود ، فإن المتعاقدين يستقلان بعقدهما .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : إن ما قلنا أنظم في الكلام ، وأقرب إلى المرام ; لأن الله تعالى قال : { إلا أن يعفون } ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو ، فإن الصغيرة أو المحجورة لا عفو لها ، فبين الله تعالى القسمين ، وقال : { إلا أن يعفون } إن كن لذلك أهلا ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ; لأن الأمر فيه إليه .

                                                                                                                                                                                                              وكذلك روى ابن وهب ، وابن عبد الحكم ، وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته ; لأن هذين هما اللذان يتصرفان في المال وينفذ لهما القول .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : إنما يتصرف الولي في المال بما يكون حظا لابنته ، فأما الإسقاط فليس بحظ ولا نظر .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : إذا رآه كان ; فإنا أجمعنا على أنه لو عقد نكاحها بأقل من مهرها نفذ ; وهذا إسقاط محض ، لكنه لما كان نظرا مضى .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فهو عام في كل ولي ، فلم خصصتموه بهذين ؟ قلنا : كما هو عام في كل زوجة وخص في الصغيرة والمحجورة .

                                                                                                                                                                                                              وأما متعلق من قال : إنه الزوج فضعيف ، أما قولهم : إن الله سبحانه ذكر الأزواج في الآيتين اللتين استشهدوا بهما فقد ذكر الولي في هذه الآية ، فجاءت الأحكام كلها مبينة والفوائد الثلاثة معتبرة ، وعلى قولهم يسقط بعض البيان .

                                                                                                                                                                                                              وأما قولهم الثاني فلا حجة فيه ; لأن مجيء العفو بمعنى واحد من الجهتين أبلغ في الفصاحة وأوفى في المعنى من مجيئه بمعنيين ; لأن فيه إسقاط أحد العافيين ، وهو الولي المستفاد إذا كان العفو بمعنى الإسقاط .

                                                                                                                                                                                                              وأما ندب الزوج إلى إعطاء الصداق كله في الآيتين اللتين ذكروا فذلك معلوم من دليل آخر .

                                                                                                                                                                                                              وأما الثالث فلا حجة لهم فيه ; لأن الله تعالى أراد أن يميز الولي عن الزوج والزوجة بمعنى يخصه ، فكنى عنه بقوله تعالى : { الذي بيده عقدة النكاح } بكناية مستحسنة ، فكان ذلك أبلغ في الفصاحة ، وأتم في المعنى ، وأجمع للفوائد .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 297 ] وأما الرابع وهو قوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } وتعلقهم بأن الإفضال لا يكون بمال أحد ، وإنما الإفضال يكون بأحد وجهين : أحدهما يكون ببذل ما تملكه يده .

                                                                                                                                                                                                              والثاني بإسقاط ما يملك إسقاطه ، كما يتفضل عليه بأن يزوجه بأقل من مهر المثل .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية