الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

منهج السياق في فهم النص

الدكتور / عبد الرحمن بودرع

تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله، الذي يسر القرآن للذكر،

فقال تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17) ،

فكان القرآن بهذا التيسير الهادف خطابا عاما للأمة جميعا، وسفرا مفتوحا لكل العصور والأجيال، ونصا ميسرا لكل الناس، مهما اختلفت مستوياتهم وتخصصاتهم ومناهجهم.

ولعل هـذا التيسير، الذي يشكل بعض ملامح الإعجاز، هـو الذي حرك الهمم، وأهل النفوس، وشحذ العقول لمحاولة محاكاة النص القرآني، واستكناه أبعاده، ومقاربة أسلوبه، وكشف وجوهه، والتعرف إلى كنوزه، فكان النص القرآني المعجز الميسر للذكر سبيلا للارتقاء باللغة والأسلوب، والتطور في النظر والاجتهاد والعطاء، حيث إن مفهوم الإعجاز القرآني الذي يعني -فيما يعني- العجز عن الإتيان بمثله، لم يكن يعني للمسلم العجز والعقم والعطالة وانطفاء الفاعلية، وإنما كان الدافع الكامن وراء كل الأنشطة الذهنية، يمدها بالعطاء الثقافي والتشريعي والتربوي والاجتماعي والسياسي والفكري، وحتى الفلسفي بشكل عام، بمعنى أن [ ص: 5 ]

النص القرآني المعجز كان المحور لثقافة الأمة والمصدر لانطلاقها في شعب المعرفة المختلفة، بالمفهوم الواسع لمصطلح «الثقافة» على مستوى المعرفة والتربية معا.

ولئن كان المعنى المتبادر لقوله تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) سهولة تلاوة، وإمكانية تداول وتناول النص القرآني، وتحصيل المدركات والمقاصد لكل بحسب مؤهله، فإنه بهذا التيسير يشكل مائدة العقل والنفس للناس جميعا.

والمتأمل المتدبر في سياق قوله تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) في سورة (القمر) يبصر فيه دلالات عميقة وعميقة جدا، لكن هـذا العمق لا يحول دون أن يأخذ كل إنسان منه بحسب كسبه العلمي والمعرفي، وليس أقلها قوانين الحركة الاجتماعية، ويبقى النص دائم العطاء بحسب ترقي الإنسان وارتقائه، ولا تدرك تلك الأعماق ويتوصل إلى غورها إلا عند انتهاء الحياة، فهو ميسر لكل الناس، وكل الأجيال، وكل الاختصاصات، وكل المناهج، سفر مفتوح دائما، ولكل العصور، ليس مغلقا بطبيعة خاتميته وخلوده على منهج أو عصر أو طبقة أو نخبة أو تخصص أو ظرف اجتماعي أو ثقافي، إنه مصدر ثقافة الأمة، التي يشارك فيها الجميع، بأقدار متفاوتة لكنها متجانسة، من العامي البسيط وحتى العالم المكين. [ ص: 6 ] والصلاة والسلام على الرسول الأمي، محل نزول القرآن، المبلغ عن ربه ما نزل إليه، الذي جاءت سنته وسيرته بيانا للقرآن، ومفاتيح فهمه، ومرجعية ضبط النظر إليه، ونفي نوابت السوء عنه، وتنـزيله على واقع الناس، ودليل التعامل معه.

ولعلنا نستعجل القول هـنا: بأن المؤشر الواضح لتيسير القرآن للذكر أن محل التلقي الأول والأنموذج الكامل للتأسي كان أميا، وإنه إنما بعث في الأميين أيضا؛

يقول تعالى: ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هـم المفلحون ) (الأعراف:157) ،

ويقول تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) ،

والرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد تلك الأمية بقوله: ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. ) (أخرجه البخاري) .

وقضية أن تكون الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب محلا للنص القرآني، وأن حامل الوحي إليها وصف بأنه النبي الأمي، قد تحتاج لشيء من التدبر والاستبصار... فالوصف بالأمي والأمية، نسبة إلى الأم؛ أي البقاء على [ ص: 7 ] أصل ولادة الأم، لم تتعلم كتابا ولا غيره من قبل، يعتبر وصفا للحال التي بعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، والمرحلة أو الحالة التي عليها الأمة محل البعثة؛ حيث جاءت النبوة الخاتمة لتغير الحال، وتنطلق بها إلى معارج التعلم والتحضر والترقي، ولا أدل على ذلك من أن خطوات النبوة الأولى بدأت رحلة التعلم بالوسائل الممكنة والمشافهة.

ونعرف من قصة بدء الوحي كيف أن الوحي بدأ بطلب القراءة كما معلوم في كتب السيرة، فكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم واصفا لحاله التي هـو عليها: ( ما أنا بقارئ. ) ، فأخذه جبريل عليه السلام ، وضمه إليه ثم أرسله، وقال: ( اقرأ. ) فرد الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما أنا بقارئ. ) فأخذه جبريل فضمه الثانية والثالثة، مما يشير إلى أن الوحي والرسالة إنما جاءت لتغيير الحال أو الحالة الأمية، والارتقاء بالأمة إلى مستوى التلاوة والتعليم والتزكية وتعلم الكتابة والحكمة؛ لأن الحالة الأمية التي سبقت الرسالة كانت حالة ضياع وضلال وعجز عن اكتشاف الهدف الصحيح للحياة، ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) .

كما يشير ذلك إلى أن العلم والمعرفة مفتاح هـذا الدين الوحيد، وسبيل بناء حضارته، وأن الأمية حالة مرحلية، وأن من إعجاز هـذه الرسالة أن تكون قادرة على تغيير هـذه الأمة الأمية، وتأهيلها لبناء حضارة إنسانية، وهذه تكاد تكون معجزة القيم الإسلامية الأساس، التي تتحقق من خلال عزمات البشر، وتملك من الإمكان الحضـاري والثقافي، ما يجعلها قادرة على النهوض [ ص: 8 ] بالأمة حتى ضمن مرحلة الأمية، وحتى مرحلة الكمال، كما أن أمية الشريعة أو الرسالة الإسلامية تعني أنها مؤهلة للتنـزل على الأميين وتغيير واقعهم وحالهم، وأن الأميين بإمكانهم تلقي هـذه الشريعة والتعامل معها والالتزام بتكاليفها، يقول الشيخ الدكتور عبد الله دراز ، رحمه الله:

أي لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك، والحكمة من ذلك؛ أولا: أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أميون على الفـطرة. ثانيا: أنها لو لم تكن كذلك لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا ثم تطبيقها ثانيا، وكـلاهما غير ميسـور لجمهور الناس المرسـل إليهم... وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف؛ لأنه عام يجب أن يفهمـه العرب والجمهور ليمكن الامتثال، أما الأسرار والحكم والمواعظ والعـبر فمنها ما يدق على فهم الجمهور، ويتناول بعض الخواص منه شيئا فيشئا بحسب ما يسره الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هـو الواقع لمن تتبع الناظرين في كلام الله على مر العصـور، يفتح على هـذا بشيء، ولم يفـتح به على (الآخر) ... إلخ. (راجع: الموافقات في أصول الشريعة، المجلد الثاني) .

لذلك نقول: بأن العلامات الكونية الواضحة، الميسرة حتى للأمي؛ من تعاقب الليل والنهار وجريان الشمس، وما تورثه من مد الظل وحركته، وتغيير القمر... إلخ، يمكن أن يشكل معالم واضحة لكل إنسان -مهما كان بسيطا- على مواقيت صلاته وحول زكاته وموعد صيامه... إلخ. [ ص: 9 ] أما العبادة فتتم الممارسة لها بالتعلم والمشاهدة والاقتداء: ( صلوا كما رأيتموني أصلي. ) (أخرجه البخاري.) ، ( لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هـذه. ) (أخرجه مسلم.)

فالقرآن ميسر للذكر، وبذلك فهو خطاب أمة بكل شرائحها؛ ابتداء من الأمي وانتهاء بالعالم المتخصص.

ومعالم عباداته وتكاليفه واضحة بإمارات وإشارات كونية متاحة للجميع، يتمكن الأمي بها أن يؤدي تكاليفه، ومن ثم يترقي بهذا الدين وهذه التكاليف حتى يبلغ الكمال... ولعل من إعجاز النص القرآني أنه يمثل عطاء لجميع الشرائع والمستويات.

فالمبعوث بالقرآن الكريم كان وراء بعث الأمة الأمية، الأمر الذي يؤكد أن معاودة الانبعاث إنما يكمن بفقه كيفية العودة للاتصال بالقرآن الكريم.

وبعد:

فهذا «كتاب الأمة» الحادي عشر بعد المائة: «منهج السياق في فهم النص» للدكتور عبد الرحمن بودرع ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر، في محاولته الدائبة لتجديد أمر الدين، ومراجعة تصميم الذهنية الثقافية للمسلم المعاصر، في ضوء معطيات الكتاب والسنة، وإعادة الاعتبار لمعرفة الوحي؛ لتأخذ موقعها من حياتنا وسلوكنا ونظرتنا للأمور، وتشكل المرجعية والمعيار لتقويمنا لكل الإنتاج العقلي، على مستوى (الذات) و (الآخر) ، وإشاعتها في إطار الأمة جميعا، وإشراكها بالعودة للقرآن، والادكار لآياته، وفك قيود وأسوار التقليد؛ [ ص: 10 ] للحيلولة دون الاحتكار المعرفي والفكري، احتكار الفهم للنص القرآني، وإكساب الأمة المناعة مما قد يورث مثل هـذا الاحتكار من كهانات دينية وإلغاء النظر، الأمر الذي يؤدي إلى إقفال النص على مجموعة أو طائفة أو مذهب أو جماعة أو عصر، وقد يسره الله للناس جميعا، كل بقدر كسبه، وأنزله للأميين، وكان سبب بعثهم، كما أنه الطريق الميسر إلى معاودة انبعاثهم مرة تلو مرة، بحسب امتلاك العزيمة والإرادة والوسيلة الصحيحة للتعامل معه، حيث المطلوب اليوم إعادة الاعتبار للأمة بكل شرائحها؛ لأنها محل القرآن.

وخلود القرآن يعني كونه سفرا مفتوحا لكل المستويات وكل الناس وكل العصور، كما يعني قدرته على العطاء والإنتاج، وتجرده عن حدود الزمان والمكان والإنسان... والتجربة الحضارية التاريخية تنفي عنه التوهم وسقامة الفهم، في أنه إنما جاء خطابا مقتصرا على الأميين، وانغلق عليهم، وعجز عن الارتقاء بهم وتربيتهم وتعليمهم وإكسابهم المعرفة والحكمة، وهي الغاية من البعث المقصـود بقولـه تعـالى: ( بعث في الأميين رسولا منهم ) (الجمعة:2) ، ذلك أن الإصرار على الأمية والجهل والعطالة الذهنية وتكريس الغفلة والعجز، والانسحاب من الحياة إلى المقابر والكهوف، والاقتصار على ترداد القرآن وتناوله وتلقيه باللسان فقط ليس من مقاصد القرآن، ولا من مهمة النبوة.

فالإعجاز -من بعض وجوهه- هـو امتلاك القدرة بالقرآن على النهوض بالأمة إلى مراقي التقدم والفهم والمعرفة والتربية والإدراك، وأن الأمية حالة [ ص: 11 ] مؤهلة دائما للتغيير والتغير والارتقاء، وإن ما حصل من الارتقاء بالأمة الأمية دليل على أن المعجزة القرآنية إنما تتحقق من خلال عزمات البشر.

إن تحويل القرآن من أن يكون خطاب أمة بكل شرائحها ومستوياتها، وإغلاقه على فئة أو طائفة أو جماعة أو زمن أو مكان؛ ليكون خطاب نخبة أو طائفة أو عصر أو جماعة، وإقصاءه عن حياة الأمة والانتهاء إلى هـجره:

( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هـذا القرآن مهجورا ) (الفرقان:30) ،

أو عزله عن حياة الأمة ومجتمعها والانتهاء به إلى مقابرها وموتها يحمل الكثير من المخاطر الشرعية والفكرية والثقافية والحضارية، والمساهمة السلبية بالفراغات الفكرية والفجوات التي سوف تملأ بـ: (الآخر) ، وليس أقل من ذلك خطـورة ( طوأفت النص القرآني ) ؛ أن تحل آراء البشر واجتهاداتهم وأقوالهم محل النص القرآني، حتى ولو ادعى أصحابها أنها إنما انطلقت من النص القرآني، وادعت مرجعيته.

وبهذه الطوأفة من إغلاق النص عن عموم الأمة، تتسلل إلينا علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، ويحتكر الفهم والتفسير من قبل حملة الكتاب المقدس، الذين يتحولون ليصبحوا المتحدث باسم الله، المتحكم بمصـائر البشر، بإرادة الله، والله تعالى يقول: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) يسره لكل الناس؛ ذلك أن النص الدال على البعـث في قوله تعالى: ( بعث في الأميين رسولا منهم ) (الجمعة:2) ، هـو نص خـالد، فلا يمكن أن [ ص: 12 ] يدعى بأن التيسير محجور على الجيل الأول المؤهل بطبيعة لغته وسليقته وصفاء ذهنه، على أهمية ذلك لبناء القاعدة الأولى وتشكيل أدلة الفهم وتجسيد دلالات النص في واقع الحياة؛ لأن ذلك الادعاء يحاصر النص، ويلغي خلوده وعطاءه لكل الناس في كل زمان، ويؤدي إلى تقطيع أوصال الأمة، وكسر حلقات تواصلها الحضاري، كما يؤدي إلى تبعثر ثقافتها، شئنا ذلك أو لم نشأه، ومحاصرة إعجاز النص القرآني.

ولعل من عظمة القرآن وملامح إعجـازه -كما أسلفنا- قدرته على خطـاب الناس جميعـا والعصور جميعا، وأن كل إنسـان مهما بلغ من البدائية والارتقـاء يأخذ منه بقدر ما أوتي من إمكانات،

قال تعالى: ( فسالت أودية بقدرها ) (الرعد:17)

فهو كالماء، من بعض الوجوه، الذي جعـله الله إكسير الحياة، جعل منه كل شـيء حي؛ يحتاجه وينتفع به الطفل الرضيع والشيخ الكبير، والعالم والعامي، والصحـيح والمريض، فهو مصـدر الحياة، واستـمرار الحـياة،

قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال:24) ،

هـو دائما وسيلة الإحياء والبعث والانبعاث والوعي، مهما كان حال الأمة.

وقضية أساسية نرى أنه من المفيد التوقف عندها، وإزالة الالتباس المحتمل أن يتعجل، فيسارع بعض البسطاء أو المغرضين إليه، وهي أننا [ ص: 13 ] عندما نتكلم عن القرآن الكريم فإننا لا نعني بحال من الأحوال تجاوز السنة، أو إسقاط دورها، أو التقليل من منـزلتها أو مكانتها من التشريع، أو الانتقاص من وظيفتها، وإنما لأننا نرى أن الحديث عن القرآن هـو حديث عن البيان النبوي لهذا القرآن، وأن خلود البيان -من كل الوجوه وليس من بعضها فقط- من خلود القرآن،

وأن حفظ البيان من حفظ القرآن: ( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) (القيامـة:17-19) ،

فالله تعهـد بالبيان كما تعـهد بحفظ القرآن، وكيف يمكن أن يـكون البيان للقرآن دون حفظ له؟! وأن السنة والسيرة هـي التي تشكل الإطار المرجعي والضابط المنهجي لفهم القرآن، وأن أي تفسير أو تأويل، أو أي دراسة واجتهاد أو تجديد على الزمن لا يجوز بحال من الأحوال أن يعود على السـنة بالنقص أو النقض أو النقد. وإنما يمكن القول: بأن خلود القرآن أن يبلغ بالناس آفاقا وفضاءات وأمداد ممتدة ومتصلة حتى قيام الساعة، شريطة أن لا يخرج ذلك عن مرجعية السنة وفهم خير القرون.

ولعلنا نقول هـنا: إن محاولات إقصاء السنة عن وظيفتها، بحجة الأحادية في النقل، التي تفيد الظن في مصطلح أهل علم الحديث، بعد كل هـذه الجهود العلمية المميزة في الضبط والنقل، هـو في الحقيقة محاولة لإقفال للنص القرآني، وإطلاق العنان للتحليل والفهم دون ضابط منهجي [ ص: 14 ] أو مرجعية حاكمة، والخروج به من مراقبة الأمة بما تمتلك من أدوات الفحص والاختبار المكتسبة من البيان النبوي (السنة) ، إضافة إلى ما يمثل ذلك من الوقوع في مشـاققة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تبين الهدى، والوقوع في وعيـد الله سبحانه وتعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) (النساء:115) ،

وأية مشـاققة أكـبر من الإلغـاء لفهم وبيان حامل الوحي إلى الأمة، بحجة أن خبر الآحاد ظني الدلالة والثبوت؟!

أما الاحتجاج للتفلت من السنة وبيانها بالآحادية والظنية فنحب أن نؤكد هـنا أن من ينكر ذلك أو يلغيه أو لا يقيم له وزنا ما لم يوافق رأيه واجتهاده، نقول: إن مثل هـذا الرأي والاجتهاد، أو التفسير والتأويل المتجاوز للسنة المخالف لها لا يخرج في حقيقته عن كونه آحاديا ظنيا، فكيف يجوز لنا أن نستبدل ظني المعصوم، الذي توفرت له جميع شروط النقل العلمية والضوابط المنهجية، بآحاد وظني البشر؟!

ونرى هـنا أن إنكار السنة هـو قبول وتوثيق لبعض المنقول دون بعض، حيث إن المعروف أن القضية لم تقف عند حدود إنكار السنة بحجة آحاديتها وظنيتها، وإنما تجاوزتها للقرآن أيضا، مع العلم بأن أكثر من تسعين بالمائة من الأحكام الشرعية ثبتت بالسنة؛ نظرا لطبيعة النص القرآني وطبيعة الحديث النبوي في البيان. [ ص: 15 ] وبدون النص النبوي سوف تطيش السهام، ويكثر التفلت من التكاليف الشرعية.

إن هـذه المجازفات العلمـية والثقـافية لم تقتصر على إنكار السنة وإنما تجاوزت إلى إسقاط بعض نصوص القرآن، المنقول بالتواتر، الذي يفيد علم اليقين، والادعاء بوجود زيادة آيات في بعض المصاحف، ونسبة بعض الآيات لأقوال بعض الصحابة... وفي ذلك ما فيه من تفريق وتجزيئ وتبعيض للنص القرآني، وجعله تفاريق يؤمن الناس ببعضها ويكفر ببعض، الأمر الذي يعتبر من الإصـابات الكبرى، التي ما تزال موجودة عند بعض الفرق والطـوائف، من الذين جعلوا القرآن عضين،

كما قال تعالى: ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) (الحجر:90-91) ،

فهي موجـودة وهي من باطـن الإثم، وإن كان خلود القرآن وتعهد الله بحفظـه، وقيام المسـلمين بتدوينه وحفظه ونقله بالمشافهة والكتابة قد تجاوز هـذه الإصابات الصغيرة، وهمشها، وأسقطها، فتحولت السهام الطائشة جميعها إلى السنة؛ لمحاصرة النص القرآني، حيث لم يمكن إسقاطه، فترك مجالا للتأويل الجاهل والانتحال الباطل والغلو الخطير.

نعود إلى القول: بأن القرآن سفر مفتوح على الزمان والمكان والإنسان، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يتوقف عطاؤه [ ص: 16 ] حتى تقوم الساعة، وأنه ميسـر للذكر، كل ناظر إليه يأخذ نصيـبه بمقدار ما أوتي من الفهم والعلم والمعرفة والقدرة على الغوص والعودة باللآلئ، وأنه خطاب أمة، خاطبها في كل ظروفها وأحوالها، في أميتها، وفي ارتقائها به، في مدارج الحضارة، ولا يزال حتى الآن يشكل رؤية وعطاء شافيا للإنسان من حيث هـو؛ من البدائي في البيئة الأمية البدائية، الذي يمثل المسافة الأقصر إلى مرحلة بدء الخلق، كما أنه يغري الإنسان المتحضر ويقدم له الزاد المقنع والرؤية النضيجة، ويصوب نظرته للحياة، ويسترد إنسانيته، ويكسبه الأمن والأمان والاطمئنان في أرقى المجتمعات وأكثرها تقدما.

ولعل من أهم إمارات إعجازه أن يخاطب الناس جميعا، في البيئات جميعا، وفي المستويات المعرفية جميعا، ابتداء من الأمي البسيط وحتى العالم الكبير، كما أنه يقدم رؤية وقيما للتخصصات المعرفية جميعا.

وعلى الرغم من هـذا الإنتاج الكبير المتمحور حول القرآن في شتى أنواع المعرفة الإنسانية، والذي جاء ثمرة لشتى المناهج وتنوعها واختلافها، حيث إنه يبدأ مع الإنسان من ولادته ويمتد بعطائه له طيلة حياته، ومراحل نموه في طفولته وتمييزه ومراهقته ورشده وكهولته، مهما كان نوع معرفته، مع ذلك نتلقى عند كل تلاوة عطاء جديدا، ونبلغ عند كل تدبر بعدا جديدا، ونلمح عند كل تأمل كشفا جديدا، حتى الإنسان الواحد في الزمن الواحد يبصر ملامح ومعاني عند معاودة القراءة. [ ص: 17 ] لقد تعددت مناهج النظر في التعامل مع النص القرآني، من المنهج التشريعي (علم أصول الفقه) لاستنباط الأحكام الفقهية، إلى المنهج البياني بكل متطلباته واستحقاقاته البلاغية، إلى المنهج التربوي بكل أدواته ومقاصده ومعطياته، إلى المنهج التاريخي في رحلة البحث والكشف عن قوانين الحركة الاجتماعية، وعوامل النهوض والسقوط، إلى المنهج السـنني، إلى المنهج النفسي، والمنهج التوحيدي، والمنهج الإشـاري، وحتى المنهج الجغرافي، ومنهج التصوير الفني، وعلى رأس ذلك كله منهج السياق الإعجازي، وطريقة رصف الكلمات في الجملة والجمل في صياغة الأسلوب المؤثر ذي الجرس الموسيقي الإيقاعي، وارتباط الألفاظ بالمعاني، وبناء الكلمات من الحروف المناسبة للجرس وللإيقاع والمقصد، بكل مخارج أصواتها وأنواعها، فيما يمكن أن يسمى: «المنهج البنيوي»، حيث رصف الكلمات في جملة، والجمل في أسلوب وسياق، أو المنهج التفكيكي التحليلي، ودور كل حرف في بناء معنى الكلمة ولفظها وإيقاعها، والمنهج المنطقي الفلسفي البرهاني، والمنهج المقصدي، ومنهج التفسير الموضوعي... إلخ.

والأمر اللافت، ولعله من ملامح الإعجاز أيضا، أن المناهج على تعددها وتنوع وجهتها واختلاف أدواتها في النظر والاستنتاج وجدت في النص القرآن محلا لفعلها، وملهما لها، كما وجد أصحاب تلك المناهج المتنوعة ضالتهم في النص القرآني، بل أكثر من ذلك استخلصوا مناهجهم من النص القرآني، ووجد كل صاحب منهج عطاء منهجه أيضا، فكان النص القرآني ميسرا للذكر لكل المستويات، وفرصة تأمل لكل مدكر، ومحلا للنظر لكل المناهج. [ ص: 18 ] ولم تتناقض هـذه المناهج ولم تتناكر على تنوعها واختلافها، ابتداء من المنهج اللغوي اللساني والبحث البنيوي أو التفكيكي ومفردات القرآن، وانتهاء بالمنهج المقصدي، حيث النص القرآني إضافة إلى أنه ميسر للذكر، فإنا نجد أيضا أن المناهج المستخدمة جميعا، بما في ذلك من ذهبوا إلى المنهج العلمي أو ما يطلق عليه: «الإعجاز العلمي»، لم تسجل إصابة واحدة على النص القـرآني؛

مصـداقا لقوله تعالى: ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) (فصلت:42) .

فكما أن القرآن خطاب للإنسان الأمي البدوي البدائي البسيط، فإنه شكل خطابا أيضا للإنسان في أرقى المجتمعات وأكثرها رقيا وتقدما في سلم التحضر كما أسلفنا، وجاءت دعوته للنظر والتدبر سبيلا للبناءات المنهجية المتعددة التي تمكن من النظر، وترجع من النص القرآني بزاد وعطاء يدل على أبعاد النص اللامتناهية حتى تنتهي الدنيا،

يدل على الخلود قوله تعالى: ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) (الكهف:109) ،

وقولـه تعـالى: ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) (لقمان:27) .

إن مناهج النظر -على تعددها وتنوعها واختلافها- وجدت في النص القرآني مجالها، بل لعلنا نقول: إن دعوة القرآن للنظر والتأمل والتبين والتبصر [ ص: 19 ] هو الذي حرض العقول فانطلقت من دعوة القرآن لبناء المناهج، وعادت إلى القرآن لاختبار هـذه المناهج.

وهنا قضية قد يكون العرض لها والتوقف عندها يشكل أهمية في تجلية بعض الأمور أو فك بعض الالتباسات، وهي أن مناهج الاستنباط والتفسير والأصول والضوابط المنهجية أو أدوات الفهم للنص القرآني، التي تولدت نتيجة لتدبر النص القرآني نفسه ومحاكاة أسلوبه وطريقته في البيان، ومن ثم استخدمت في تفسيره وتحديد أهدافه ومقاصده وبلوغ آفاقه وإدراك أبعاده واستنباط أحكامه واكتشاف قوانينه وسننه في الأنفس والآفاق، بحيث يمكن القول: بأنها انطلقت وتبلورت ونضجت في مناخه لترجع إليه كأدوات للنظر والدرس والفقه والتحليل.

وكان من الطبيعي أن تتحول هـذه المناهج إلى مناهج وأصول وقواعد عامة في تفسير النصوص، تجاوزت النظر في النص القرآني ذي المصدر الإلهي، الذي يمنحه العصمة، ويقينية الثبوت، إلى تفسير وفهم ونظر في النصوص ذات المصدر البشري القابل للفحص والاختبار، والتعامل معه وكأنه نص مسلم بصوابيته وصحته، مثله مثل النص المعصوم، وأن المطلوب هـو فقط إدراك أبعاده ومدلولاته وفهم مقاصده وأهدافه، والغفلة عن أنه بشري يتطلب -إلى جانب أدوات ومناهج الفهم للنص القرآني المعصوم- استحضار بشريته، وما يترتب على ذلك من احتمالات الخطأ والصواب، الأمر الذي يستدعي أدوات إضافية تتناسب مع طبيعة النص ومدى اعتماد مصدريته. [ ص: 20 ] ولحكمة يريدها الله أن الكثير من آيات الأنفس والآفاق وردت في القرآن مجملة؛ لينطلق الفكر والفعل في آفاقها وأمدائها وفضاءاتها الواسعة، يكشف عن موجوداتها، ويكتشف قوانينها، ويعمل على محاكاتها ومقاربتها وابتكار وسائل إبصارها. وما أعتقد أن هـناك كتابا في تاريخ البشرية شكل منطلقا لمجموعة دراسات متنوعة، ومصدرا لثقافة إنسانية في بيئات جغرافية وتاريخية وزمانية متعددة التنوع موحدة المصدر كالقرآن الكريم.

إضافة إلى ذلك شكل القرآن -ولا يزال- تمحورا واهتماما ثقافيا وفكريا وحضاريا عالميا؛ سواء بالنسبة للمدافعين عنه المنطلقين منه، أو للمحاولين النيل منه، حيث القرآن يشكل للإنسان بشكل عام محلا لجدلية الحياة.

وأكثر من ذلك أيضا، فإذا كانت البلاغة تعرف بأنها: «مطابقة الكلام لمقتضى الحال»، أو مطابقة المقال للمقام، فإن إدراك المقام له دور أساس في فهم المقال؛ لأن المقام بما أطلق عليه «منهج السياق»، بحث يتجاوز داخل النص وذات النص وحتى دلالة النص، إلى النظر في السياق والمقام، ذلك أن المناسبة والسياق لا نقول: تحاصر النص، وتغلقه عليها. ذلك أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمناسبة ، وإنما تشكل وعيا وبصيرة لوجهة النص ودلالته، وفقها لتنـزيله على واقع الناس.

لذلك فإن النص القرآني يشكل فضاء واسعا يحيط برحلة النبوة في مسيرتها التاريخية الطويلة، ويواكب الإنسانية في مسيرتها إلى أن ينشئ الله النشأة الآخرة، ولا يزال البشر يبدون في إدراك النص القرآني ويعيدون، كل يغترف منه حسب اختصاصه ومعرفته وثقافته، هـو فضاء مفتوح غير [ ص: 21 ] متناه، لا يمكن أن يختزل بمنهج أو مذهب أو جماعة أو طـائفة أو زمان أو مكان، أو يمكن إغلاقه دون سائر الناس، وقد يسره الله للذكر، وحض العقل الإنساني والجنس البشري وحرضه بكل مستوياته وأزمنته على النظر والادكار والتدبر والتبين والاعتبار،

يقول تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) .

والقرآن على الجملة، هـو كتاب حياة كاملة، وهداية للإنسان، فهو ليس كتاب لغة وبيان وأدب وتربية وعلم وتاريخ وفنون وعلوم، وإنما هـو كتاب يمثل القيم المرجعية لذلك كله، حيث يؤهل الإنسان، ويضعه في مناخ ذلك، ويدفعه للإنتاج النافع في شتى هـذه الميادين، ويقدم له النماذج في المجالات المتنوعة للاهتداء، لكن ذلك جميعه لا يخرجه عن مقصده وهدفه؛ صناعة الإنسان المستخلف لصنع التقدم والحضارة، وفق منهج القرآن، وأن هـذه الروافد والجداول من الرؤى والمناهج تخرج من القرآن وتعاود الصب فيه، وتعين على فهمه، ولسنا بحاجة إلى الإشارة إلى وجوه الترقي اللغوي والبياني والبرهاني مقاربة ومحاكاة للإعجاز، ولا المناخ العلمي الذي دفع الإنسان المسلم إلى الكشف والإبداع والتحريض والفاعلية لعقله ونظره، ليتدبر ويتبين فيندفع صوب كشف الحقيقة وتسخير معطيات الكون وفق منهج القرآن.

والحقيقة أن رحلة البحث في فضاءات النص القرآني ماضية لا تتوقف حتى انتهاء رحلة الحياة، وهذا يشكل بحد ذاته دليل الخلود والحيوية وديمومة العطاء ويؤكد حقيقة الإعجاز، كما أن الجدل والتمحور حول النص [ ص: 22 ] مستمر أيضا، بين مدافع عنه، كاشف لإعجازه وكنوزه، وبين خارج عنه يحاول النيل منه وإلحاق الإصابة به، ولا تضرب بالحجارة إلا الأشجار المثمرة، وبين هـذا وذاك يبقى النص القرآني خالدا خلود الزمان، ومحلا لاهتمام الناس وفائدتهم، من الأميين إلى الأكثر تعلما وتحضرا وكسبا معرفيا.

لكنني أعتقد -في إطار ذلك كله، وفعل ذلك كله، على أهميته وضروريته- أن من المقاصد الأساسية التي لا يجوز أن تغيب ولو لحظة واحدة، أو تتراجع عن مرتبتها وأولويتها أثناء النظر والتنهيج والبحث والجدل حول فهم النص وتحديد معطياته، هـي أن هـذا القرآن إنما أنزل ليتدبر فيعمل به، فلا يصح أن يستغرق الجدل حول النص القرآني الجهد كله، والاستغناء بالجدل وصوابية المنهج وأهميته عن العمل بمقاصده، فيحول ذلك دون التوجه صوب قراءة المجتمعات ومعرفة استطاعاتها وإمكاناتها، ومن ثم إعادة تجسير العلاقة بين الأمة والنص القرآني؛ لأنه خطاب أمة، حتى ولو كانت مناهج التعامل معه إنتاج نخبة، لكن يبقى تحقيق عطاء القرآن إنجاز أمة.

إن الاقتصار في التمركز حول مناهج الفهم وأدواته، على أهميتها وضروريتها -لأن مرتبة الفكر قبل الفعل- إذا لم يتم تجاوزها إلى الفعل وتنـزيل القرآن على واقع الناس، وبناء ثقافة الأمة من آياته وقيمه فقد يخرج الأمة من دائرة النص، ويحول التعاطي معه إلى مادة نخبة، كما يخرج النص من إطار العقيدة الفاعلة المحركة في الأمة، الدافعة للإنجاز، المانعة من السقوط والانقراض، إلى إطار الفلسفة ذات المعارف النظرية الباردة، حيث يقتصر العمل على النظر والجدل وينحصر في خاصة الخاصة، التي تعيش معزولة عن الأمة، فيتحول الجدل حول النص عملا. [ ص: 23 ] والكتاب الذي نقدمه، يكاد يكون من الكتب المتخصصة؛ بما يطرحه من رؤى منهجية دقيقة، قد تتجاوز الاقتصار في النظر على النص القرآني، والتمحور حول تحليل لغته وبنيته وألفاظه وأسلوبه وفقهه التشريعي والتربوي، والاكتفاء بأدوات فهم النص المعروفة، بل تحرص على أن تقدم قراءة جديدة تشكل دليلا على كيفية الإحاطة بالنص القرآني، من خلالها منهج رئيس في الفهم لا يمكن إغفاله وهو «السياق» أو «المقام» أو «الحال»، الذي نزل النص لمعالجته، ذلك أن السياق أو المقام، أو ما يمكن أن نطلق عليه بـ: «أسباب النـزول»، التي تمثل وسائل معينة على استيعاب النص ووعيه، والوعي في أبسط مدلولاته: هـو إيجاد الأوعية القادرة على الإحاطة بالنص من كل جانب، فإذا كانت بلاغـة صاحب النص أن يجـيئ كلامـه مطـابقا لمقتضى الحال ومتطـلباته، وأن لكل مقـام مقال، فإن المقام والحال هـو إحدى الوسائل الأساس الراجعة لفهم أبعاد النص ودلالاته.

والكتاب على تخصصه الصارم يمكن أن يسـاهم بمنح أداة فهم إضافية للمتخصصين، كما يمنح الإنسـان المثقف من جانب آخر عمقا ورؤية وقناعة بعبقرية العربية وأهليتـها لتكون وعاء لكلام الله ولغة التنـزيل، والتي تتسع لأبعاد الرؤية القرآنية ذات المناهج المتنوعة، لتسع بعد ذلك رحلة الحياة بكل أبعادها، الأمر الذي بدأ يغيب عن ثقافة المسلم المعاصر، و: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 24 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية