الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 317 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن كان له ماشية أو غيرها من أموال الزكاة ، وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال عن النصاب ، ففيه قولان ( قال في القديم ) لا تجب الزكاة فيه ، لأن ملكه غير مستقر لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء ( وقال في الجديد ) تجب الزكاة فيه لأن الزكاة تتعلق بالعين ، والدين يتعلق بالذمة ، فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين وأرش الجناية ، وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاث طرق : ( أحدها ) إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة ، لأنه قد حصل له نماؤه ، وإن كان غيرها فقيل قولين كالمغصوب .

                                      ( والثاني ) تجب الزكاة فيه قولا واحدا لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة ، كالحجر على السفيه والمجنون .

                                      ( والثالث ) وهو الصحيح أنه على قولين كالمغصوب ، لأنه حيل بينه وبينه ; فهو كالمغصوب ، وأما القول الأول : أنه حصل له النماء من الماشية فلا يصح لأنه وإن حصل النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ، ومحول دونه ، و ( القول الثاني ) : لا يصح لأن حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف ، لأن وليهما ينوب عنهما في التصرف وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الدين هل يمنع وجوب الزكاة ؟ فيه ثلاثة أقوال ( أصحها ) عند الأصحاب ، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في معظم كتبه الجديدة : تجب ، ( والثاني ) لا تجب وهو نصه في القديم وفي اختلاف العراقيين من كتبه الجديدة ، وذكر المصنف دليل القولين ، ( والثالث ) حكاه الخراسانيون أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنية وهي الذهب والفضة وعروض التجارة ، ولا يمنعها في الظاهرة وهي الزروع والثمار والمواشي والمعادن ، والفرق أن الظاهرة نامية بنفسها وبهذا القول قال مالك قال أصحابنا : وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا كان من جنس المال أو من غيره ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور . وقال جماعة من الخراسانيين : القولان إذا كان ماله من جنس الدين ، فإن خالفه وجبت قطعا وليس بشيء ، فالحاصل أن المذهب وجوب الزكاة سواء كان المال باطنا أو ظاهرا أم من جنس الدين أم غيره ، قال أصحابنا : سواء دين الآدمي ودين الله عز وجل ، كالزكاة السابقة ، والكفارة والنذر وغيرها .



                                      وأما مسألة الحجر الذي ذكرها المصنف ، قال أصحابنا : إذا قلنا : الدين يمنع وجوب الزكاة فأحاطت برجل ديون ، وحجر عليه القاضي فله ثلاثة [ ص: 318 ] أحوال : ( أحدها ) يحجر ويفرق ماله بين الفرق الغرماء ، فيزول ملكه ولا زكاة ( والثاني ) أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه ويمكنهم من أخذه فحال الحول قبل أخذه فالمذهب أنه لا زكاة أيضا ، وبه قطع الجمهور لضعف ملكه . وحكى الشيخ أبو محمد الجويني وآخرون من الخراسانيين وجها أن وجوب الزكاة فيه يخرج على الخلاف في المغصوب ، لأنه حيل بينه وبينه ، وقال القفال : يخرج على الخلاف في اللقطة في السنة الثانية ، لأنهم تسلطوا على إزالة ملكه تسلط الملتقط في السنة الثانية بخلاف المغصوب ، والصحيح ما سبق عن الجمهور والفرق أن تسلط الغرماء أقوى من تسلط الملتقط ; لأنهم أصحاب حق على المالك ; ولأنهم مسلطون بحكم حاكم ، فكان تسليطهم مسنده ثبوت المال في ذمة المالك ، وهو أقوى ; بدليل أنهم إذا قبضوه لم يرجع فيه المفلس بوجه ما ، بخلاف الملتقط فإن للمالك إذا رجع أن يرجع في عين اللقطة على أحد الوجهين .

                                      ( الحال الثاني ) أن لا يفرق ماله ولا يعين لأحد شيئا ، ويحول الحول في دوام الحجر ، وهذه هي الصورة التي أرادها المصنف ، وفي وجوب الزكاة هنا ثلاثة طرق ذكرها المصنف بدلائلها ( أصحها ) أنه على الخلاف في المغصوب ، ( والثاني ) القطع بالوجوب ، ( والثالث ) القطع بالوجوب في الماشية ، وفي الباقي الخلاف كالمغصوب ، والله أعلم .

                                      ( إذا ثبت هنا ) فقد قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : ولو قضى عليه بالدين وجعل لهم ماله حيث وجدوه قبل الحول ، ثم جاء الحول قبل أن يقبضه الغرماء ، لم يكن عليه زكاة ; لأنه صار لهم دونه قبل الحول ، فمن الأصحاب من حمله على الحالة الأولى ، ومنهم من حمله على الثانية . وقال الشافعي في الحالة الثانية : وللغرماء أن يأخذوا الأعيان التي عينها لهم الحاكم حيث وجدوها ، فاعترض الكرخي عليه وقال : أباح الشافعي لهم نهب ماله ، فأجاب أصحابنا عنه فقالوا : هذا الذي توهمه الكرخي خطأ منه ، لأن الحاكم إذا عين لكل واحد عينا جاز له أخذها حيث وجدها ، لأنه يأخذها بحق والله أعلم .



                                      [ ص: 319 ] فرع ) : قال صاحب الحاوي وآخرون من الأصحاب : إذا أقر قبل الحجر بوجوب الزكاة عليه فإن صدقه الغرماء ثبتت ، وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين ، وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان ؟ فيه الأقوال الثلاثة المشهورة في اجتماع حق الله تعالى ودين الآدمي ، وإن أقر الزكاة بعد الحجر ففيه القولان المشهوران في المحجور عليه إذا أقر بدين بعد الحجر ، هل يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء ؟ أم يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته ؟ .



                                      ( فرع ) : إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة فقد ذكرنا أنه يستوي دين الله تعالى ودين الآدمي ، قال أصحابنا : فلو ملك نصابا من الدراهم أو الماشية أو غيرهما فنذر التصدق بهذا المال أو بكذا من هذا المال فمضى الحول قبل التصدق فطريقان أصحهما القطع بمنع الزكاة ، لتعلق النذر بعين المال .

                                      ( والثاني ) أنه على الخلاف في الدين ، ولو قال : جعلت هذا المال صدقة أو هذه الأغنام ضحايا أو لله على أن أضحي بهذه الشاة ، وقلنا : يتعين التضحية بهذه الصيغة فالمذهب أنه لا زكاة قطعا . وطرد إمام الحرمين وبعضهم فيه الخلاف . قال الإمام : والظاهر أنه لا زكاة لأن ما جعل صدقة لا تبقى فيه حقيقة ملك بخلاف الصورة السابقة ، فإنه لم يتصدق ، وإنما التزم التصدق ، ولو نذر التصدق بأربعين شاة أو بمائتي درهم ولم يضف إلى دراهمه وشياهه فهذا دين نذر فإن قلنا : دين الآدمي لا يمنع فهذا أولى ، وإلا فوجهان ( أصحهما ) عند إمام الحرمين لا يمنع ، لأن هذا الدين لا مطالبة به في الحال فهو أضعف ، ولأن النذر يشبه التبرعات ، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره فالوجوب به أضعف ، ولو وجب عليه الحج ، وتم الحول على نصاب في ملكه قال إمام الحرمين والغزالي : فيه الخلاف المذكور [ في ] مسألة النذر قبله ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) : إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة ففي علته وجهان ( أصحهما ) وأشهرهما - وبه قطع كثيرون أو الأكثرون - ضعف الملك لتسلط المستحق ، ( والثاني ) أن مستحق الدين تلزمه الزكاة ، فلو أوجبنا على المديون أيضا [ ص: 320 ] لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد ، وفرع أصحابنا الخراسانيون على العلتين مسائل : ( إحداها ) لو كان مستحق الدين ممن لا زكاة عليه كالذمي والمكاتب ، فعلى الوجه الأول لا تجب وعلى الثاني تجب لزوال العلة الثانية .

                                      ( الثانية ) ولو أنبتت أرضه نصابا من الحنطة ، وعليه مثله سلما ، أو كان الدين حيوانا بأن ملك أربعين شاة سائمة وعليه أربعون سلما ، فعلى الأول لا تجب ، وعلى الثاني تجب .

                                      ( الثالثة ) لو ملك نصابا . والدين الذي عليه دون نصاب ، فعلى الأول لا تجب وعلى الثاني تجب . قال الرافعي : كذا أطلقوه ، ومرادهم إذا لم يملك صاحب الدين غيره من دين أو عين فلو ملك ما يتم به النصاب لزمه الزكاة باعتبار هذا المال . هكذا رتب هذه الصور جماعة من الأصحاب ، وقطع الأصحاب ، وقطع الأكثرون فيها بما يقتضيه الأول ، ولو ملك مالا لا زكاة فيه كعقار وغيره وجبت الزكاة في النصاب الزكوي على هذا القول أيضا وعلى المذهب وبه قطع كثيرون ، وفي وجه أنها لا تجب بناء على علة التثنية حكاه إمام الحرمين وغيره . ولو زاد المال الزكوي على الدين نظر إن كان الفاضل نصابا وجبت فيه الزكاة وفي الباقي القولان . وإن كان دون نصاب لم تجب على هذا القول لا في قدر الدين ولا في الفاضل .



                                      ( فرع ) : إذا ملك أربعين شاة فاستأجر من يرعاها فحال حولها فإن استأجره بشاة معينة من الأربعين مختلطة بباقيها وجبت شاة ، على الراعي منها جزء من أربعين جزءا والباقي على المستأجر ، وإن كانت منفردة فلا زكاة على واحد منهما إن استأجره بشاة في الذمة فإن كان للمستأجر مال آخر غيرها وجبت الزكاة في الأربعين وإلا فعلى القولين في أن الدين هل يمنع وجوبها ؟ .



                                      ( فرع ) : ملك نصابين زكويين كنصاب بقر ونصاب غنم وعليه دين فإن لم يكن الدين من جنس ما يملكه قال البغوي : يوزع عليهما فإن خص [ ص: 321 ] كل واحد ما ينقص به عن النصاب فلا زكاة في واحد منهما على قولنا : الدين يمنع الزكاة ( وقال ) أبو القاسم الكرخي بالخاء المعجمة وابن الصباغ : يراعى الأغبط للمساكين كما أنه لو ملك مالا آخر غير زكوي صرفنا الدين إليه رعاية للفقراء ، وحكي عنابن سريج مثله وهو الأصح وإن كان الدين من جنس أحد المالين فإن قلنا الدين يمنع الزكاة فيما هو من غير جنسه ، فالحكم كما لو لم يكن من جنس أحدهما وإن قلنا لا يؤثر في غير الجنس اختص بالجنس .



                                      ( فرع ) : المال الغائب ، إن لم يقدر عليه لانقطاع الطريق أو انقطاع خبره ، فكالمغصوب - وقيل : تجب الزكاة قطعا - ولا يجب الإخراج بالاتفاق حتى يصل إليه ، وإن كان مقدورا عليه وجب إخراج زكاته في الحال ويخرجها في بلد المال ، وإن أخرجها في غيره ففيه خلاف نقل الزكاة المذكورة في قسم الصدقات . هذا إذا كان المال مستقرا في بلد فإن كان سائرا لا يخرج زكاته حتى يصله فإذا وصله زكى ما مضى بالاتفاق . وقد ذكر المصنف المسألة في باب زكاة الذهب والفضة وسنعيدها هناك إن شاء الله تعالى .



                                      ( فرع ) : إذا باع مالا زكويا قبل تمام الحول بشرط الخيار فتم في مدة الخيار ، أو اصطحبا في مدة خيار المجلس فتم فيها الحول ، بني على أن ملك المبيع في مدة الخيار لمن ؟ فإن : قلنا للبائع فعليه زكاته وإن قلنا للمشتري فلا زكاة على البائع ، ويبتدئ المشتري حولا من وقت الشراء . وإن قلنا : موقوف فإن تم البيع كان للمشتري وإلا فللبائع وحكم الحالين ما سبق . هكذا ذكره الأصحاب ولم يتعرضوا للبناء المذكور .

                                      ( قال ) إمام الحرمين : إلا صاحب التقريب فإنه قال : وجوب الزكاة على المشتري يخرج على القولين في المغصوب بل أولى لعدم استقرار الملك ، وهذا إذا كان الخيار لهما أما إذا كان للمشتري وحده ، وقلنا : الملك له فملكه ملك زكاة ، بلا خلاف لكمال ملكه وعلى قياس هذه الطريقة يجري الخلاف في جانب البائع أيضا إذا قلنا الملك له وكان الخيار للمشتري وقد حكى البندنيجي طريقة صاحب التقريب عن بعض الأصحاب ، قال أصحابنا : [ ص: 322 ] فإن كانت الزكاة على البائع فأخرجها من موضع آخر استقر البيع ولا خيار للمشتري وإن أخرجها من عين المبيع بطل البيع في قدرها ، وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة ، وإن لم نبطله فللمشتري الخيار في فسخ البيع والله أعلم .



                                      ( فرع ) : إذا أحرز الغانمون الغنيمة فينبغي للإمام تعجيل قسمتها ويكره له تأخيرها من غير عذر ، وقد ذكر المصنف هذا في قسم الغنيمة ( قال ) أصحابنا : فإذا قسم فكل من أصابه مال زكوي وهو نصاب أو بلغ مع غيره من ملكه نصابا ابتدأ حوله من حينئذ ولو تأخرت القسمة بعذر أو بلا عذر حتى مضى حول فهل تجب الزكاة ؟ ينظر إن لم يختاروا التمليك فلا زكاة لأنها غير مملوكة فملكها في نهاية من الضعف يسقط بالإعراض وللإمام في قسمتها أن يخص بعضهم ببعض الأنواع ، أو بعض الأعيان إن اتحد النوع ولا يجوز هذا في سائر القسم إلا بالتراضي ، وإن اختاروا التملك ومضى حول من حين وقت الاختيار نظر - إن كانت الغنيمة أصنافا - فلا زكاة ، سواء كانت مما تجب الزكاة في جميعها أو بعضها ; لأن كل واحد لا يدري ما يصيبه وكم نصيبه ؟ وإن لم تكن إلا صنف زكوي وبلغ نصيب كل واحد نصابا فعليهم الزكاة وإن بلغ مجموع أنصبائهم نصابا ونقص نصيب كل واحد عن نصاب وكانت ماشية وجبت الزكاة وهم خلطاء وكذا لو كانت غير ماشية وأثبتنا الخلطة فيه . فإن كانت أنصباؤهم ناقصة عن النصاب ولا تبلغ نصابا إلا بالخمس فلا زكاة عليهم ; لأن الخلطة مع أهل الخمس لا تثبت ; لأنه لا زكاة فيه بحال لكونه لغير معين فأشبه مال بيت المال والمساجد والربط . هذا حكم الغنيمة على ما ذكره الجمهور من العراقيين والخراسانيين وهو المذهب وفيه وجه قطع به البغوي أنه لا زكاة قبل إفراز الخمس بحال ، ووجه أنه تجب الزكاة في حال عدم اختيار التملك وهما شاذان مردودان . قال إمام الحرمين والغزالي : إن قلنا الغنيمة لا تملك قبل القسمة فلا زكاة ، وإن قلنا : تملك فثلاثة أوجه : " أحدها " لا زكاة لضعف الملك ، " والثاني " تجب لوجود الملك ، " والثالث " إن كان فيها ما ليس زكويا فلا زكاة وإلا وجبت ، والمذهب ما قدمنا عن الجمهور والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية