الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 303 ] القول في كفارة المتمتع

وأما كفارة المتمتع التي نص الله عليها في قوله - سبحانه - : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) الآية ، فإنه لا خلاف في وجوبها ، وإنما الخلاف في المتمتع من هو ؟ وقد تقدم ما في ذلك من الخلاف .

والقول في هذه الكفارة أيضا يرجع إلى تلك الأجناس بعينها على من تجب ؟ وما الواجب فيها ؟ ومتى تجب ولمن تجب ، وفي أي مكان تجب ؟

فأما على من تجب : فعلى المتمتع باتفاق ، وقد تقدم الخلاف في المتمتع من هو .

وأما اختلافهم في الواجب : فإن الجمهور من العلماء على أن ما استيسر من الهدي هو شاة ، واحتج مالك في أن اسم الهدي قد ينطلق على الشاة بقوله - تعالى - في جزاء الصيد : ( هديا بالغ الكعبة ) . ومعلوم بالإجماع أنه قد يجب في جزاء الصيد شاة . وذهب ابن عمر إلى أن اسم الهدي لا ينطلق إلا على الإبل والبقر ، وأن معنى قوله - تعالى - : ( فما استيسر من الهدي ) أي : بقرة أدون من بقرة ، وبدنة أدون من بدنة .

وأجمعوا أن هذه الكفارة على الترتيب ، وأن من لم يجد الهدي فعليه الصيام .

واختلفوا من حد الزمان الذي ينتقل بانقضائه فرضه من الهدي إلى الصيام ، فقال مالك : إذا شرع في الصوم فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم . وقال أبو حنيفة : إن وجد الهدي في صوم الأيام لزمه ، وإن وجده في صوم السبعة لم يلزمه ، وهذه المسألة نظير مسألة من طلع عليه الماء في الصلاة وهو متيمم .

وسبب الخلاف هو : هل ما هو شرط في ابتداء العبادة هو شرط في استمرارها ؟ وإنما فرق أبو حنيفة بين الثلاثة والسبعة ، لأن الأيام هي عنده بدل من الهدي ، والسبعة ليست ببدل .

وأجمعوا على أنه إذا صام الثلاثة الأيام في العشر الأول من ذي الحجة أنه قد أتى بها في محلها لقوله - سبحانه - : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) .

واختلفوا فيمن صامها في أيام عمل العمرة قبل أن يهل بالحج ، أو صامها في أيام منى ، فأجاز مالك صيامها في أيام منى ، ومنعه أبو حنيفة وقال : إذا فاتته الأيام الأولى وجب الهدي في ذمته ، ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحج ، وأجازه أبو حنيفة .

وسبب الخلاف : هل ينطلق اسم الحج على هذه الأيام المختلف فيها أم لا ؟ وإن انطلق فهل من شرط الكفارة أن لا تجزئ إلا بعد وقوع موجبها ؟ فمن قال : لا تجزئ كفارة إلا بعد وقوع موجبها قال : لا يجزي الصوم إلا بعد الشروع في الحج ، ومن قاسها على كفارة الأيمان قال : يجزي .

واتفقوا أنه إذا صام السبعة الأيام في أهله أجزأه ، واختلفوا إذا صامها في الطريق : فقال مالك : يجزئ الصوم ، وقال الشافعي : لا يجزئ .

وسبب الخلاف : الاحتمال الذي في قوله - سبحانه - : ( إذا رجعتم ) فإن اسم الراجع ينطلق على من فرغ من الرجوع ، وعلى من هو في الرجوع نفسه .

فهذه هي الكفارة التي ثبتت بالسمع ، وهي من المتفق عليها .

ولا خلاف أن من فاته الحج بعد أن شرع فيه إما بفوت ركن من أركانه ، وإما من قبل غلطه في الزمان ، [ ص: 304 ] أو من قبل جهله أو نسيانه ، أو إتيانه في الحج فعلا مفسدا له ، فإن عليه القضاء إذا كان حجا واجبا . وهل عليه هدي مع القضاء ؟ واختلفوا فيه . وإن كان تطوعا فهل عليه قضاء أم لا ؟ الخلاف في ذلك كله ، لكن الجمهور على أن عليه الهدي لكون النقصان الداخل عليه مشعرا بوجوب الهدي . وشذ قوم فقالوا : لا هدي أصلا ولا قضاء إلا أن يكون في حج واجب ، ومما يخص الحج الفاسد عند الجمهور دون سائر العبادات أنه يمضي فيه المفسد له ، ولا يقطعه ، وعليه دم . وشذ قوم فقالوا : هو كسائر العبادات .

وعمدة الجمهور ظاهر قوله - تعالى - : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . فالجمهور عمموا ، والمخالفون خصصوا قياسا على غيرها من العبادات إذا وردت عليها المفسدات .

واتفقوا على أن المفسد للحج إما من الأفعال المأمور بها فترك الأركان التي هي شرط في صحته على اختلافهم فيما هو ركن مما ليس بركن . وأما من التروك المنهي عنها فالجماع ، وإن كانوا اختلفوا في الوقت الذي إذا وقع فيه الجماع كان مفسدا للحج .

التالي السابق


الخدمات العلمية