الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السادس     في بعض فضائل أم المؤمنين أم حبيبة

                                                                                                                                                                                                                                بفتح الحاء المهملة بنت أبي سفيان بن صخر بن حرب القرشية الأموية - رضي الله تعالى عنها - وفيه أنواع :

                                                                                                                                                                                                                                  الأول : في نسبها واسمها .

                                                                                                                                                                                                                                تقدم نسب أبيها ، وأمها صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان ، قال ابن أبي خيثمة : أخبرنا مصعب بن عبد الله أن اسمها رملة ، بفتح الراء وهو المشهور ، ويقال : هند .

                                                                                                                                                                                                                                الثاني : في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - لها .

                                                                                                                                                                                                                                ويوم هجرتها إلى الحبشة ، كانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عبيد الله بن جحش ، وولدت له حبيبة وبها كانت تكنى ، وهاجر بها إلى الحبشة في الهجرة الثانية ، ثم تنصر هناك ، ومات عنها على النصرانية ، وبقيت أم حبيبة - رضي الله تعالى عنها - على دين الإسلام وأبى الله عز وجل لأم حبيبة ألا تتنصر ، فأتم الله تعالى - الإسلام والهجرة وتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه إياها والذي عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص وأصدقها النجاشي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعمائة دينار على خلاف محكي في الصداق ، والعاقد ، وبعثها مع شرحبيل بن حسنة وجهزها من عنده ، كل ذلك في سنة تسع ، وقيل : كان الصداق مائتي دينار ، وقيل : أربعة آلاف درهم ، والأول النسب ، وروى ابن سعد عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأموي ، قال : قالت أم حبيبة - رضي الله تعالى عنها - : رأيت في النوم كأن زوجي عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة فأصبحت ، فإذا به قد تنصر ، فأخبرته بالمنام ، فلم يحفل وأكب على الخمر حتى مات فأتاني آت في النوم ، فقال : يا أم المؤمنين ، ففزعت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن ، فذكر لأم حبيبة خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها من النجاشي وروى الطبراني بسند حسن عن الزهري - رحمه الله تعالى - قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة وأنكح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية رضي الله عنها عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - من أجل أن أم حبيبة ، أمها صفية بنت أبي العاص ، وصفية عمة عثمان أخت عفان لأبيه وأمه ، وقدم بأم حبيبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرحبيل بن حسنة .

                                                                                                                                                                                                                                  [ ص: 194 ] وروى ابن أبي خيثمة في تاريخه عن مصعب بن عبد الله الزبيري ، قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة ، زوجه إياها النجاشي ، فقيل لأبي سفيان يومئذ وهو مشرك (يحارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : إن محمدا قد نكح ابنتك ، قال : ذاك الفحل لا يقرع أنفه ، قال : ودخل أبو سفيان على ابنته أم حبيبة فسمع تمازح النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : ما هو إلا أن تركتك فتركتك به العرب ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك وهو يقول : أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة ! .

                                                                                                                                                                                                                                وروي أيضا عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال : تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست .

                                                                                                                                                                                                                                وروي أيضا عن الزهري ، قال : زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى النجاشي ، فزوجه إياها وساق عنه أربعين أوقية .

                                                                                                                                                                                                                                وروي أيضا عنه ، عن عروة ، عن أم حبيبة أنها كانت عند عبيد الله بن جحش وكان رحل إلى النجاشي فمات ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة زوجها إياه النجاشي ، ومهرها أربعة آلاف درهم ، وبعث بها مع شرحبيل ومهرها من عنده ، وما بعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                وروى ابن الجوزي في الصفوة عن سعيد بن العاص قال : قالت أم حبيبة : رأيت في النوم كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهها . ففزعت فقلت : تغيرت والله حاله . فإذا هو يقول حين أصبح : يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر دينا خيرا من النصرانية ، وكنت قد دنت بها ثم دخلت في دين محمد ، ثم رجعت في النصرانية .

                                                                                                                                                                                                                                فقلت : والله ما خير لك . وأخبرته بالرؤيا التي رأيتها فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات : فأرى في النوم كأن آتيا يقول : يا أم المؤمنين ففزعت فأولتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني .

                                                                                                                                                                                                                                قالت : فما هو إلا أن قد انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن . فإذا جارية له يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت : إن الملك يقول لك إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أزوجه فقالت : بشرك الله بخير . قالت : يقول لك الملك وكلي من يزوجك .

                                                                                                                                                                                                                                فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين [ ص: 195 ] كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سرورا بما بشرتها .

                                                                                                                                                                                                                                فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال : الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                أما بعد : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصدقتها أربعمائة دينار .

                                                                                                                                                                                                                                ثم سكب الدنانير بين يدي القوم فتكلم خالد بن سعيد فقال : الحمد لله ، أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - أما بعد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها . ثم أرادوا أن يقوموا فقال : اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج . فدعا بطعام وأكلوا ثم تفرقوا .

                                                                                                                                                                                                                                قالت أم حبيبة : فلما وصل إلي المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني فقلت لها : إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي فهذه خمسون مثقالا فخذيها فاستعيني بها . فأبت وأخرجت حقا فيه كل ما كنت أعطيتها فردته علي وقالت : عزم علي الملك أن لا أرزأك شيئا وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه وقد اتبعت دين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلمت لله عز وجل وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر .

                                                                                                                                                                                                                                قالت : فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير فقدمت بذلك كله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يراه علي وعندي فلا ينكره . ثم قالت أبرهة : فحاجتي إليك أن تقرئي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه . قالت : ثم لطفت بي وكانت التي جهزتني ، وكانت كلما دخلت علي تقول : لا تنسي حاجتي إليك .

                                                                                                                                                                                                                                قالت : فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بي أبرهة فتبسم وأقرأته منها السلام فقال : وعليها السلام ورحمة الله وبركاته .


                                                                                                                                                                                                                                الثالث : في طيها فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يجلس عليه أبوها ، حال شركه .

                                                                                                                                                                                                                                روى (ابن الجوزي ) في صفة الصفوة عن الزهري قال : لما قدم أبو سفيان بن حرب [ ص: 196 ] المدينة جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام ودخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال : يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه ، فقالت : بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك . فقال : يا بنية لقد أصابك بعدي شر .

                                                                                                                                                                                                                                الرابع : فيما نزل بسبب زواج أم حبيبة - رضي الله تعالى عنها - من القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                قال الله - سبحانه وتعالى - : عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة [الممتحنة 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                الخامس : في وفاة أم حبيبة - رضي الله تعالى عنها -

                                                                                                                                                                                                                                روى أبو عمر وابن الجوزي [ . . . . ] قال أبو بكر بن أبي خيثمة : توفيت أم حبيبة قبل موت معاوية بسنة ، سنة أربع وأربعين ، ويقال : سنة اثنتين وأربعين ، وقيل : سنة خمس وخمسين ، قال البلاذري : والأول أثبت .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية