الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ( 129 ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ( 130 ) )

[ ص: 399 ] يقول تعالى ذكره ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) يا محمد أن كل من قضى له أجلا فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله ( وأجل مسمى ) يقول : ووقت مسمى عند ربك سماه لهم في أم الكتاب وخطه فيه ، هم بالغوه ومستوفوه ( لكان لزاما ) يقول : للازمهم الهلاك عاجلا وهو مصدر من قول القائل : لازم فلان فلانا يلازمه ملازمة ولزاما : إذا لم يفارقه ، وقدم قوله ( لكان لزاما ) قبل قوله ( وأجل مسمى ) ومعنى الكلام : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ، فاصبر على ما يقولون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) الأجل المسمى : الدنيا .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) وهذه من مقاديم الكلام ، يقول : لولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى كان لزاما ، والأجل المسمى الساعة ، لأن الله تعالى يقول ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) قال : هذا مقدم ومؤخر ، ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( لكان لزاما ) فقال بعضهم : معناه : لكان موتا .

[ ص: 400 ] ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثني أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( لكان لزاما ) يقول : موتا .

وقال آخرون : معناه لكان قتلا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ( لكان لزاما ) واللزوم : القتل .

وقوله ( فاصبر على ما يقولون ) يقول جل ثناؤه لنبيه : فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من قومك لك إنك ساحر وإنك مجنون وشاعر ونحو ذلك من القول ( وسبح بحمد ربك ) يقول : وصل بثنائك على ربك ، وقال : بحمد ربك ، والمعنى : بحمدك ربك ، كما تقول : أعجبني ضرب زيد ، والمعنى : ضربي زيدا ، وقوله : ( قبل طلوع الشمس ) وذلك صلاة الصبح ( وقبل غروبها ) وهي العصر ( ومن آناء الليل ) وهي ساعات الليل ، واحدها : إنى ، على تقدير حمل ، ومنه قول المتنخل السعدي :


حلو ومر كعطف القدح مرته في كل إنى قضاه الليل ينتعل



ويعني بقوله ( ومن آناء الليل فسبح ) صلاة العشاء الآخرة ، لأنها تصلى بعد مضي آناء من الليل . وقوله ( وأطراف النهار ) : يعني صلاة الظهر والمغرب ، وقيل : أطراف النهار ، والمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرتا ، لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وفي أول طرف النهار الآخر ، فهي في طرفين منه ، [ ص: 401 ] والطرف الثالث : غروب الشمس ، وعند ذلك تصلى المغرب ، فلذلك قيل أطراف ، وقد يحمل أن يقال : أريد به طرفا النهار . وقيل : أطراف ، كما قيل ( صغت قلوبكما ) فجمع ، والمراد : قلبان ، فيكون ذلك أول طرف النهار الآخر ، وآخر طرفه الأول .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن عاصم عن ابن أبي زيد عن ابن عباس ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) قال : الصلاة المكتوبة .

حدثنا تميم بن المنتصر قال : ثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم راءون ربكم كما ترون هذا ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ثم تلا ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) " .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) قال ابن جريج : العصر ، وأطراف النهار قال : المكتوبة .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس ) قال : هي صلاة الفجر ( وقبل غروبها ) قال : صلاة العصر ( ومن آناء الليل ) قال : صلاة المغرب والعشاء ( وأطراف النهار ) قال : صلاة الظهر .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار ) قال : من آناء الليل : العتمة ، وأطراف النهار : المغرب والصبح ، ونصب قوله ( وأطراف النهار ) عطفا على قوله ( قبل طلوع الشمس ) لأن معنى ذلك : فسبح بحمد ربك آخر الليل ، وأطراف النهار . [ ص: 402 ] وبنحو الذي قلنا في معنى ( آناء الليل ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس ( ومن آناء الليل ) قال : المصلى من الليل كله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا ابن علية عن أبي رجاء قال : سمعت الحسن قرأ ( ومن آناء الليل ) قال : من أوله ، وأوسطه ، وآخره .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله ( ومن آناء الليل فسبح ) قال : آناء الليل : جوف الليل .

وقوله ( لعلك ترضى ) يقول : كي ترضى .

وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والعراق ( لعلك ترضى ) بفتح التاء . وكان عاصم والكسائي يقرآن ذلك ( لعلك ترضى ) بضم التاء ، وروي ذلك عن أبي عبد الرحمن السلمي وكأن الذين قرءوا ذلك بالفتح ذهبوا إلى معنى : إن الله يعطيك ، حتى ترضى عطيته وثوابه إياك ، وكذلك تأوله أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( لعلك ترضى ) قال : الثواب ، ترضى بما يثيبك الله على ذلك .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج ( لعلك ترضى ) قال : بما تعطى ، وكأن الذين قرءوا ذلك بالضم وجهوا معنى الكلام إلى لعل الله يرضيك من عبادتك إياه ، وطاعتك له . والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متفقتا المعنى ، غير مختلفتيه ، وذلك أن الله تعالى ذكره إذا أرضاه ، فلا شك أنه يرضى ، وأنه إذا رضي فقد أرضاه الله ، فكل واحدة منهما تدل على معنى الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية