الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            التقنيات الحديثة (فوائد وأضرار) (دراسة للتأثيرات السلبية على صحة الفرد)

            الأستاذ الدكتور / شعاع اليوسف

            تقديم

            عمر عبيد حسنة

            الحمد لله، الذي بدأ النبوة بالكلمة (في البدء كانت الكلمة) ، وجعل الخطوة الأولى على طريق النبوة الخاتمة قوله تعالى:

            ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5) ،

            فأوضح أن بناء الإنسان وسبيل النهوض وإخراج الأمة والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وإقامة الحضارة والعمران وتحقيق التعايش والتعارف إنما يتحقق بالعلم والتعلم والقراءة والكتابة، بكل متطلباتها واستحقاقاتها وأدواتها؛ تلك القراءة الواعية لميدانها، المبصرة لهدفها، المسبوقة بالنية والقصد لفعلها وعملها، فـ ( إنما الأعمال بالنيات ) (أخرجه البخاري ) .

            فباسم الله الخالق تكون رحلة القراءة للخلق، ابتداء من علم الأجنة وآلية تكوين الإنسان وطبيعة فطرته ومعرفة مؤهلاته واستعداداته وما زوده الله به لرحلة البحث والكشف العلمي، وانتهاء بالفضاءات العلمية ورحلة الكسب العلمي جميعها، في المجالات كلها، والاستمرار في رؤية الآيات التي ما تزال تتبدى على مستوى الأنفس والآفاق، فالإنسان المستخلف في [ ص: 5 ] الأرض لإقامة العمران وبناء الحضارة واكتشاف قوانين التسخير مؤهل لهذه المهمة، إنه مستودع أسرار، ومنجم طاقات، انطوى عليها، قادرة على تسخير الكون والمخلوقات الأخرى، طاقاته لا حدود لها، وحسبنا في ذلك النظر إلى بعض القدرات الخارقة التي يتمتع بها بعض الناس ومخزون القدرات الهائلة التي نبصرها عند الذين فقدوا بعض حواسهم فأصيبوا بالإعاقة.

            يقول الشاعر:

            وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

            أما حقائق الكون، حقائقه الغائبة المذخورة للاكتشاف ضمن قدرات الإنسان وتطور معارفه وكسبه، فلا يتوقف اكتشافها إلا بتوقف الإنسان وانتهاء رحلة الحياة وبدء النشأة الآخرة.

            والصلاة والسلام على الرسول المعلم، الذي جعل السعي لطلب العلم وكسبه، مستصحبا الإيمان بالله في ضبط مسيرة تعليمه، وربطها بأهدافها، بادئا رحلته باسم الله، مدركا ما يمنحه ذلك من عزيمة، ويتيح له من حضارة وترقي، وما يمنحه من ثواب وعافية سعيدة، فقال: ( من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) (أخرجه البخاري ) .

            فطريق العلم النافع هـو طريق التوصل إلى الجنة؛ وكان شعاره الدائم،

            قوله تعالى: ( وقل رب زدني علما ) (طه:114) ،

            كما كان خوفه واستعاذته الملفته من انحراف رحلة البحث العلمي عن مقاصدها وأهدافها [ ص: 6 ] فيجيء دعاؤه ومناجاته للإله الخالق الذي يقرأ باسمه: ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) (أخرجه مسلم ) .

            وبعد:

            فهذا «كتاب الأمة» الثاني عشر بعد المائة: «التقنيات الحديثة.. فوائد وأضرار: دراسة للتأثيرات السلبية على صحة الفرد» للأستاذة الدكتورة شعاع هـاشم اليوسف ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر ، في سعيه الدائب لاكتشاف مواطن الخلل، ودراسة أسبابه، وتصميم الذهنية الثقافية القادرة على التحول من معالجة الآثار المترتبة على الخلل إلى دراسة الأسباب المنتجة له، والمساهمة باسترداد الفاعلية وإيقاظ الوعي بالمنهج السنني وفقه العواقب وإبصار قوانين الحركة الاجتماعية في السقوط والنهوض الحضاري، في محاولة لمعاودة إخراج الأمة من جديد، ووضعها على طريق المعرفة، التي كانت ولا تزال تشكل القوة الحقيقية للأمة والخطوة الأساس في طريق النهوض والتنمية، وتجاوز ذهنية التخلف، وتوسيع دائرة الرأي والمثاقفة والمفاكرة والحوار، وبناء العقل الناقد القادر على التمييز بين قيم الدين المعصومة في الكتاب والسنة وبين صور التدين القابلة للخطأ والصواب والنقد والتصويب، وعدم الاقتصار في النقد والهجوم والمدافعة والمواجهة على (الآخر) والاكتفاء بالمرابطة على الحدود، دون التوجه صوب الداخل الإسلامي ودراسة مواطن الخلل في بنيته وتقديم سبيل الوقاية والعلاج. [ ص: 7 ] ذلك أن التوجه صوب (الآخر) واستنفاد الطاقة في حراسة الحدود، والاقتصار بالفخر والإعجاب على عطاء السلف، وإنجازاتهم العلمية والمعرفية، الذي قد لا يخرج عن معالجة عقدة مركب النقص والعجز الذي نعاني منه، دون التنبه إلى الإصابات المستوطنة بذهنية المسلمين اليوم، سوف يؤدي إلى تكريس التخلف، والمزيد من العجز، وتفاقم الإشكاليات، وزيادة مساحة الوهم والضلال الثقافي، وتحكم الأمنيات وتعطيل الإمكانيات، وقد تنتهي هـذه الذهنية الثقافية بنا إلى أقدار مخيفة من النظرات الحزبية الضيقة والأسوار الحزبية المحكمـة، التي تحمي التخلف وتطارد النقـد والمناصحة ولا تنتج إلا ذهنية التطفيف والانحياز، وتساهم بإقامة دوائر اجتماعية مغلقة هـي أشبه بالطائفيات، تقتصر على الإعجاب بنفسها وإنتاجها وإنجاز شيوخها إلى درجة يتحول ماضيها ليصبح مستقبلها، ويغيب فيها النقد والتناصح والمراجعة وشجاعة الاعتراف بالخطأ.

            إن انفلات ضبط النسب، وما يورثه من فقدان التوازن وعدم إبصار مواقع العمل المجدي، وغياب الأولويات، وعدم التبصر بالعواقب والمآلات، والتمحور حول الفكر الدفاعي، وتحويل الحواس جميعها صوب الحدود ومخاطر العدو ومؤامراته وكيوده، وتجاوز الأقدار المطلوبة في قرع طبول الحرب، وتضخيم الأزمات، والعجز عن الالتفات للداخل واكتشاف أمراض التخلف المستوطنة والمزمنة، هـو -من بعض الوجوه- نوع من المناخ [ ص: 8 ] المطلوب للذهنية الذرائعية، ومحاولة إعفاء النفس من مسئولية التخلف والعجز بسبب من الأزمات المتتالية والتآمر العالمي.

            ذلك إن بعض الذهنيات الغوغائية، وعلى الأخص ذهنيات عصور التخلف وما تنتجه من زعامات، تستعـذب مناخ الأزمـات، بحيث باتت لا تحسن إلا إنتاج فكر الأزمات، ولا تستطيع سوى قرع طبول الحرب وتجييش الناس صوب العدو، الذي قد يكون موهوما أو وهما في كثير من الأحيان.. وعلى افتراض وجود العدو وضخامة مؤامراته وكيوده، فإن العلم لا يقابل بالجهل، والعقل لا يقابل بالساعد، والفاعلية لا تقابل بالبلادة، والذكاء لا يقابل بتكريس الغباء، والمؤامرات لا تعالج بالأصوات وسماكة الحناجر، وبناء زعامات الظواهر الصوتية على المستوى الفكري والظواهر السوطية على المستوى السياسي.

            إن التهويل والتضخيم والصراخ والعويل يفقد الأمة الحس الصحيح والإدراك النضيج لمشكلاتها والرؤية السليمة لتوظيف طاقاتها، كما يفقدها الأمن والاطمئنان، ويحيطها بالقلق، عدو كل علم ومعرفة وتقدم، وينتج بطبيعته مزيدا من ضاربي الطبول والتحشـيد والحماس، ويهدر طاقات الأمة، ويبدد إمكاناتـها، ويعطل توجهها صوب العلم المنتج واستشعار إحياء فروض الكفاية، ويشكل زعامات جوفاء لا تحسن إلا قرع طبول الحرب دون أن تكون عنـدها معرفة بفنون القتال، ولا وسـيلة القتال، ولا روح التضحية. [ ص: 9 ] في هـذا المناخ الموهوم تختلط الأوراق وتضطرب الأولويات؛ هـذا المناخ الغوغائي -إن صح التعبير- يجعل الأمة تراوح مكانها وهي تحسب أنها تحسن صنعا، كما يجعلها تعيش حالة القلق والتوجس والخوف، الذي يقضي على روحها وفاعليتها وينشئ زعامات متخصصة في ركوب الموجة، والإفادة من الأزمة، وامتلاك القدرة على التهويل والتضخيم والتحشيد، والبحث دائما عن أزمات جديدة ليبقى التوتر والإرهاب الفكري في أعلى درجاته، شأنها في ذلك شأن زعامات الاستبداد السياسي ومصادرة الحريات باسم الصمود بوجه المؤامرة.

            وكم كان يتمنى الإنسان أن تنشئ هـذه المناخات زعامات أو نخبا قادرة على إدارة الأزمات حال عدم القدرة على دفعها، لكن الأمر يتمحض حول توظيف الأزمة لصنع الزعامة، الأمر الذي تحول من زعامة أزمة إلى أزمة زعامة ونخبة.

            كما أدى هـذا المناخ، في الوقت نفسه، إلى انتقاص إنسانية الإنسان، وافتقاده للكثير من حواسه ووعيه في هـوجة طبول الحرب المستمرة فوق رأسه، فزعماء صناعة الأزمات وتضخيم المؤامرات والتهويل حولها وإقامة المعارك الفكرية والثقافية بغير عدو ليسوا أقل خطرا من تجار الحروب والأزمات، الذين يقامرون بأقوات الناس وحياتهم، فالجميع يعطلون ارتقاء الأمة ويشلون قدرتها على إقامة العمران وتحقيق المعارف النافعة والترقي في مدارج الحضارة الإنسانية. [ ص: 10 ] إن حالة زعامات الأزمة انعكست على كل شيء فأزمته؛ لأن ذلك أصبح مناخا لا يمكنها العيش بدونه، الأمر الذي أدى إلى الوقوع في حفر التخلف والفراغ والغياب الخطير للدور الرسالي والحضاري، الذي استدعى (الآخر) ، وبذلك بدأت فصول جديدة أو روايات جديدة من الأزمات؛ وانعكست حالة زعامات الأزمة على حالة الأمة التربوية والتعليمية والثقافية، ولم تقتصر أصوات طبول الحرب على الحدود، التي لم يلبث الأعداء أن أدركوا أنها طبول جوفاء وهشة لم تعد تخيف إلا أصحابها، بل امتدت لكل المواقع، وافتعلت المعارك والصراعات والعداوات في المذاهب والمدارس والأندية والجامعات والمنظمات والأحزاب، وحتى المساجد، حتى المؤسسات المنوط بها عملية التغيير والإنقاذ سقطت في وهدة التخلف لدرجة أصبح معها زعماء الأزمة الذين كانوا وراء الفساد هـم رجاء الإصلاح وأمل النهوض، وهكذا تستمر الحلقة المفرغة.

            وفي تقديري -والله أعلم- أن الإشكالية ابتداء هـي أننا نصنع معارك بغير عدو، ونستورد مشكلات مجتمعات أخرى -وقد تكون أصبحت تاريخية عندهم- لنستورد حلولها، ويستغرقنا الفكر الدفاعي، الذي يجعل الخصم والعدو يتحكم بأنشطتنا ومجالات تفكيرنا حتى مناهجنا التعليمية وكسبنا العلمي والمعرفي، وهذه كلها تمظهر لزعامات وقيادات الأزمات.

            ولعلنا نقول هـنا: إن الجـدلية الأساس لحركة الحياة وتفاعلها وتقدمها أو تخلفها هـي في انتظام العلاقة بين العلم والدين، وإن المعادلة الصعبة تاريخيا [ ص: 11 ] كانت ولا تزال في افتعال الصراع بين القيم الدينية والحقائق العلمية، أو بين معرفة الوحي ومعرفة العقل، أو بين النقل والعقل، ونعتقد أن افتعال مثل هـذا الصراع أو تضخيمه، على أحسن الأحوال، يدخل في ما أسميناه: «صناعة الأزمات» وإيجاد المسوغات لها.

            والأمر الذي نراه ابتداء أن إشكالية العالم بشكل عام وإشكالية العالم الإسلامي، التي تعتبر رجع الصدى لمشكلات العالم، هـو وجود علم بلا دين يقابله وجود دين بلا علم.

            هذا الشرخ الحضاري والإنساني جعل رحلة العلم المنفلتة من قيم الوحي، على الرغم من كل عطائها وإنجازها وما قدمته للبشرية، ترافقت مع سهام طائشة قد تصيب صاحبها، لانفلات المعرفة عن أدبها وقيمها وأهدافها وفقدانها المرجعية والمعايير التي تتحاكم إليها وترجع إليها لاكتشاف الخلل وتصويب المسـيرة دون أن يشـكل ذلك عوائق أمام المسيرة العلمـية، إضافة إلى فقدانها الأهداف الإنسانية، الأمر الذي انتهى بها على ما فيها من خير إلى انتقاص إنسانية الإنسان، والإكثار من علله وأمراضه وخوفه وإصاباته، وفقدان طمأنينة وسكينة نفسه، وتحويله إلى كائن قلق خائف متوتر، ذلك أن معرفة العقل أو العلم لم تستطع أن تغطي المساحة الإنسانية لمعرفة الوحي.

            هذا الشرخ الحضاري والإنساني بين الدين والعلم، أو الخصومة المفتعلة بين معرفة الوحي ومعرفة العقل، انتهى إلى لون من التدين السلبي العاجز [ ص: 12 ] المنسحب من صناعة الحضارة وبناء العمران والقيام بأعباء الاستخلاف (مهمة الإنسان) عن الإنتاج العلمي والحضاري، بل أكثر من ذلك جعل عطاء معرفة الوحي، القائم في الأصل على التلقي والاتباع والتلقين، بديلا عن رحلة الكشف العلمي القائم على الإبداع والتفكير والتراكم المعرفي والنقد والتصويب، أو مقابلا لها، وبذلك حرم الوحي من إنتاج وإبداع العقل وحرم العقل من هـداية الوحي، دون امتلاك القدرة لكل منهما أن يغطي وظيفة (الآخر) .

            ولعل من المسلمـات التأكيد أن موضـوع الدين غـير موضوع العلم، أو محل الدين غير محـل العلم، وإن تجاورا وتشاركا في بعض المساحات الضرورية للتـواصل والتأثير والتـأطير؛ لأن موضوع الدين والعلم هـو الإنسـان.. ولئن كان موضوع الدين أو معرفة الوحي هـو الإنسان وتزكيته والعمل على تأهيله وبنائه وهدايته والارتقاء به وتحضيره وبيان أهدافه وغاياته وصناعة سلوكه السوي، فإن موضوع العلم أو معرفة العقل هـي في تلقي الوحي والاجتهاد في تنـزيله على واقع الناس وتقويم سلوكهم به، إضافة إلى إبداع أشيائه، التي تشكل مجموعة الوسائل والعلوم التي تعينه على القيام بمهمة الاستخلاف، فالوحي يصنع الإنسان والإنسان يصنع العلم.

            وقد يسـوغ لنا القول: إن محل العلم بشـكل عام آيات الآفـاق، وإن محل التدين آيات الأنفس، وتوجيه الإنسان للنظر في آيات الآفاق [ ص: 13 ] واستمرار الكشف العـلمي والكسب العلمي؛ وإن عطاء الوحي معارف يتحقق العقل من سلامة نقلها، وعطاء العقل عـلوم وقوانين وحقائق، يكتشـفها العقل ويختبر مـدى صوابـها؛ وإن الوحي الذي محله الإنسان -والعقل جزء منه- يعتبر العقل من لوازمه، لفهمه والتعاطي معه وانطلاقه لرحلة البحث والكشـف العلمي ضمن مرجعية وهدفية وأخلاق لا تتأتى إلا من الوحي.

            لذلك قد لا نستغرب أن تأتي الكثير من وظائف العقل في الوحي الإلهي ضمن إشارات عامة وتوجيهات عامة، في الكتاب والسنة، لتوجه العقل صوبها، قياما بوظيفته، بينما نرى أن معارف الوحي جاءت على الكثير من التفصيل والتفريع للحيلولة دون الخطأ في الاجتهاد والابتداع في الدين، ومن ثم توفير طاقات العقل لذلك.. فإمكانات العقل وساحة نشاطه مختلفة نوعيا عن إمكانات الوحي ومجالاته.

            إن الخلط بين معارف الوحي ووظـائف وعطاء العقل، أو الصـراع بين الوحي والعقل، الدين والعـلم، انتـهى إلى النتـائج الخطيرة والفاشلة في حياة الإنسانية، سواء كان هـذا الصراع معلنا، كما هـو الحال في الحضارة الأوربية، أو كان خفيا ورجعا للصدى، كما هـو واقع بعض من الحالة الإسلامية.

            وقد تكون الإشكالية هـي ادعاء رجال الدين أنهم العلماء والمتخصصون في كل شيء، وأنهم يعرفون كل شيء، وأن معرفة الوحي معصومة ويقينية [ ص: 14 ] وبذلك فهي تلغي معرفة العقل القابلة للخطأ (!) وهذا ضد أصل الخلق وتنوعه، وضد طبيعة الأشياء، الأمر الذي أدى في الغرب إلى معالجة الانحراف بانحراف مقابل، بتأليه العقل بديلا عن الوحي واعتماده والطلب إليه القيام بوظيفة الوحي، ذلك أن الدين قائم في تصور الغرب على التسليم دون تفكير أو مناقشة ومراجعة، والعقل قائم على البرهان والشك والمناقشة والمراجعة والنقد والنقض، وبذلك الخلط المتحصل بسبب رجال الدين وصور التدين المغشـوش، لا بسبـب قيم الدين، عزل الدين عن الحـياة، أو عزلت الحياة عن الدين، وانطلقت الرحلة العلمية بدون ضوابط وأهداف، فكانت المحصلة شقاء الإنسان بغياب الأمن النفسي، وشقاء الإنسان بتغييب إنسانيته عن الرحلة العلمية المنفلتة من أهدافها ومرجعيتها.

            إن تسمية معارف الوحي علما، بالمدلول الفني لكلمة العلم، وإقحامه في غير ما نزل له، ودفعه للتنازع مع الحقائق العلمية، يشكل خطورة دينية وعلمية في الوقت نفسه، كما أن تسمية عطاء العقل الوضعي هـو الدين الجديد للبشرية وأن العلم هـو الإله، يشكل خطورة أشد وأخطر، ويفقد العلم قيمته وفوائده، وقد يصرفه ليكون أداة بغي وهيمنة وصراع وإصابات ومخاطر جعلت الكثير يفرون منه إلى نوع من الفلسفات الوجودية والارتكاس إلى الحياة البدائية؛ لأنها قد تكون الأسعد للإنسان المعذب بمعطيات الحضارة المعاصرة. [ ص: 15 ] وعندما ينفلت العلم من الدين، أو يخرج على الدين، يقع في البغي والهيمنة،

            يقول تعالى: ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) (الشورى:14) ،

            عندها تتحول الرحلة العلمية بمعظم عطائها لإنتاج أدوات الهيمنة والتسلط؛ وأكثر من ذلك فقد يزيف العلم ليكون في خدمة الساسة أو المغامرين السياسيين، ولانزال نذكر الدراسات البيولوجية التي نشأت في ظل النازية والفاشية في محاولة يائسة وطائشة باسم الحقائق العلمية لإثبات التمييز العنصري علميا.

            نعود إلى القول: إن الصراع المفتعل بين الدين والعلم، على اختلاف موضوعيهما ووظيفتيهما ورسالتيهما ودوريهما ومصدريهما، جعل العالم يدفع الأثمان الباهظة ولا يزال، بسبب غياب العلم الذي يعـتبر من لوازم الدين، أو بسبب غياب القيم الدينية الضابطة لمسيرة العلم، والتي تعتبر من لوازم العلم.

            والإشكالية قد تكون أكثر خطورة وأشد تمظهرا في واقعنا الإسلامي، حيث إن الرسالة الإسلامية الخاتمة استوعبت حركة البشرية، وجاءت لتصويب المعادلة ومعالجة أسباب الصراع بين العلم والدين، وقدمت لذلك تجربة حضارية تاريخية تجلت في واقع الإنسان، حيث جاء ازدهار العلم وتقدمه وتألقه موائما للالتزام بالقيم الدينية وتقديم أرقى نماذج التدين والكسب العلمي، الذي يثير الاقتداء، حيث كثيرا ما اجتمع التخصص في [ ص: 16 ] العلم التطبيقي والاجتهاد في معارف الوحي في شخص واحد، وأن التخلف والإصابات والفهم المتخلف والجمود الذي لحق بقيم الوحي لم يقتصر عليها وإنما امتد هـذا التخلف والجمود لتعطيل وظيفة العقل والحد من انطلاقه أيضا، وأن فترة التألق والإنجاز الحضاري كانت عندما أخذ الوحي مجاله وأخذ العقل مجاله، بعيدا عن الثنائية والانشطار، بعيدا عما تصنعه الحضارة المعاصرة من تكوين الإنسان برأسين ووجهتين، وتركه في شقوتين، شقوة الدنيا وشقوة الآخرة.

            ذلك إن التقدم بأشياء الإنسان لا يغني عن الارتقاء بخصائص الإنسان، ومنحه معرفة الأسماء ودليل التعامل مع أشيائه ومع الحياة، وأن من مقتضى الارتقاء بخصائص الإنسـان وثمرته إبداع أشيائه ومعرفة حقـائق الحياه، وأن طريق الخلاص هـو الخروج من الثنائيات، الوحـي والعقل، العلم والدين، الدنيا والآخرة، مطالب الجسد ومطالب الروح، وفك الاشتباك الموهوم بين العلم والدين، من حـالات إيجاد المخلوق المسخ علم بلا دين أو دين بلا علم.

            إن دور الدين أنه يؤهل الإنسان بالرؤية الشاملة للكون والإنسان والحياة، ويزوده بالدليل المطلوب للرحلة العلمية، ويضعه في المناخ العلمي، ويلفت نظره ويحرضه ويدفعه للملاحظة والكشف والاختبار، ويقدم له بعض الحقائق العلمية لتكون دليله لرحلته وتعريفه بوظيفته.. أما الادعاء بأن القيم الدينية قادرة على الإجابة عن الأسئلة العلمية، وإقامة كهانات دينية [ ص: 17 ] لذلك تدعي المعرفة بكل شيء وتحاول إقحام القيم الدينية في المجالات الفنية والعلمية، فهذا إسـاءة للدين قبل أن يكون إسـاءة ومحاصرة للعلم، وذلك لا يقل أهمية عن إقحام العلم للإجابة عن كل الأسئلة التي لا يمتلك وسيلة الإجابة عنها ولا البحث فيها.

            وإقامة الزعامات الوهمية قد يدفع ببعضها للجراءة والادعاء أن النص الديني يغالب النص العلمي، وأن النص الديني سبق رحلة الكشف العلمي بإثبات بعض الحقائق العلمية، وقد يستغرقنا هـذا التوجه، على الرغم من التخلف العلمي الذي يعاني منه أهل النص الديني، دون أن ندري أننا قد نمارس توبيخ أنفسنا.

            وفي تقديري أن عملية النمو والتقدم عملية شاملة ومتكاملة بأبعادها المتعددة، ومجالاتها المتنوعة، ومعاييرها المنضبطة، فالتدين الصحيح يدفع لاكتساب العلم والتبحر به، لذلك أعتقد أن معادلة «دين بلا علم» محل نظر؛ لأن التدين الصحيح أو الالتزام الصحيح بقيم الوحي ينعش العقل، ويحرضه، ويدفعه، ويوفر طاقاته، ويشعره بالمسئولية عن وظيفته ويحميه من السقوط وتجاوز حدوده.

            فمؤشر التدين الصحيح الإنتاج العلمي المحكوم بالأهداف الإنسانية، وأن صور التدين التي تحاصر العلم وتحول دون انطلاقه هـي تدين مغشوش، يحتاج إلى مراجعة وإعادة تصويب. [ ص: 18 ] نعود إلى القول: إن معارف الوحي قائمة على الاتباع والتلقي والاقتداء والتأسي والمقاربة بالأنموذج: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) (أخرجه البخـاري ) ، ( لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هـذه ) (أخرجه مسلم ) ، ( من أحدث في أمرنا هـذا ما ليس فيه فهو رد ) (أخرجه البخاري ) ، ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) (أخرجه البخاري ) ، ( ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ) (أخرجه أبو داوود ) .

            فالتلقي والتلقين والتبليغ والأمـانة في النقل هـي وسـيلة إيصال الوحي، بينما المقارنة والبرهان والاستدلال والملاحظة والاختبار والاكتشاف والتراكم والتصويب هـي وسيلة الوصول إلى اكتشاف القوانين العلمية والسنن الكونية للوصول إلى الحقائق.

            وفي ضوء ذلك يمكن القول: إننا بالنسبة لمعارف الوحي: كلما اقتربنا من بدء الوحي زمانا ومكانا وصحابة وتابعين كلما تجلت لنا الصورة الصحيحة والمعرفة الدقيقة والمطمئنة، أما بالنسبة للكسب العلمي فعلى العكس تماما حيث تتوثق المعلومة وتتأكد وتكتشف وتحرر وتتراكم كلما امتددنا صوب المستقبل؛ ولا نعني بذلك أن وجهة العلم مغايرة لوجهة الدين، ذلك أن القيم الإسـلامية خالدة للزمن، ولتؤكد من وجه آخر حقيقة اكتمال الدين وكماله، والحيلولة دون الابتداع فيه وتجاوز موضوعه، وإنما لنقرر أن موضوع الدين ومحله هـو الإنسان وموضوع العلم هـو أشياء [ ص: 19 ] الإنسان -كما أسلفنا- وأن العلم منتج إنساني بشري والقيم الدينية منـزل سماوي.

            وفي تقديري أن الأسباب الكبرى للتخلف، ولكل إشكالاته وانعكاساته في عالمنا الإسـلامي، جاءت ثمرة للمعـارك المفتعـلة بين الدين والعلم، أو بين معرفة الوحي ومعـارف العقل، التي قد يكون لـها أسبابها ونتائجها في الحضارة الغربية، حيث لم نكن نحن نمثل فيها إلا رجع الصدى، ضمن من عقولهم في آذانـهم، الذين يتلقون الإنتاج الثقافي بألسنتهم، الأمر الذي أدى بالكثير من الأشخاص والمؤسسات التي ترعى معارف الوحي إلى الانكفاء على الذات وبناء الأسوار السميكة بين المعرفة العلمية وبين القيم الإيمانية، باسم سد الذرائع، الأمر الذي أدى إلى تحريم وتجريم الذين يتوجهون صوب الدراسـات العلمية على أنها مقابل الدراسات الشرعية، حتى أصيبت المؤسسـات الشرعـية بغربة الزمان والمكان والعجز عن معرفـة حقيقة المجتمعـات التي هـي محل دعوتـها، ودافعت المؤسسات الشرعية دفاع المستـميت لتحول دون دخول بعض المواد العلمية إلى المـدارس والجـامعات الشرعـية خوفا عليها، دون أن تدري أن هـذا الخـوف لم يكن سويا وأن هـذا الجمود تولد عنه قيام جامعات ومدارس مقابلـة وسمـت بالعلمانية لكنها أيضا لم تنج من الإصابة بقصر النظر وغياب البصـيرة، حيث دافعـت دفاع المستميت [ ص: 20 ] دون دخول المواد الشرعية أو الدينية كثقافة ومعـلومات ضرورية لرؤية الحياة وكيفية التعامل معها.

            هذا الانشطـار الثقافي، وقيام المعارك، وتبديد الجهود بغير عدو حقيقي، حرم المؤسسات العلمية من قيم الوحي، التي تحدد أهدافها وتضبط مسيرتها وتكون مرجعيتها، كما حرم العلم من الانضباط بقيمه وأهدافه وأخلاقه، وانكفأت المؤسسـات الشرعية على قراءة ومحاكاة نفسها، حيث لم تفلح في أداء رسالتها للإنسان بشكل كامل وتقود مسيرة العلم إلى الأهداف الخيرة.. وحتى تعفي نفسـها من المسئولية عن حركة العلم والمجتمع انتهى بعض القائمين على شئونها إلى إشاعة أفكار محزنة وبئيسة: «إن الله اصطفانا لعبادته وسخر لنا الكفار لخدمتنا والعمل في المصانع والمعامل ومؤسسات علوم الدنيا» (!) ، وكأن الفروض الكفائية إنما هـي تكاليف لغير المسلمين.

            وبذلك لم نقتصر على تكريس الجمود والتخلف والتراجع، وإنما وضعنا له المسوغات والمبررات والفلسفات الغريبة العجيبة، وبذلك فرضنا حالة ثقافية موهومة ومغشوشة تتهم كل من حاول اختيار الجامعات والعلوم المدنية بالإلحاد والعداوة للإسلام والمروق من الدين، فأوقعنا الناس في إشكاليات ومآزق، وكأن التسرع دون تبين في الاتهام واقتراف المعصية يفرحنا، وتوجهنا إلى التـأثيم والتكفير والحكم على النوايا، وأرهبنا الكثير من الطلبة من إثم التوجـه صوب الاختصـاصات العلمية، ودفعنا الكثير [ ص: 21 ] من المتخصصين إلى مغادرة تخصصاتهم إلى منابر الوعظ والإرشاد، بزاد وبدون زاد، وكأن القيام بأعباء الاستخلاف وإقامة العمران إنما يتحقق بالأماني والآمال، والنصر يتحقق بالرغبات دون إعداد واستعداد وتخصص، فانتهينا إلى أن نعيش عالة في مأكلنا ومركبنا وملبسنا ودوائنا وتراثنا على الإنتاج العلمي (للآخر) لدرجة توقف حياتنا على عطائه، ولو يشاء لقطع عنا سبل الحياة.

            ولا يقل عن ذلك خطورة القول: إن العلم حيادي وغير منحاز، وبذلك يتم الترويج لإبعاد الرحلـة العلمية عن القيم الدينية وتجريد العلم عن وظيفته وأهدافـه الإنسانية وانفـلاته من ضوابطه بحجـة أن القيم الدينية أو الأيديولوجيا تعيق مسيرة العلم وطـلاقة البحث، وهذا إنما جاء ثمرة لتسلط رجال الدين في الحضارة الأوروبية –كما أشرنا- على غير مجالهم واختصاصهم ومحاصرة العـلم والعلـماء والتنكر للحقيقـة العلمية إذا عارضت أهواءهم ومصالحهم، فكانت ردة الفعل خروج العلم على أصول التدين، وهذا قد يكون رد فعل سوي إلى حين، أما عندما تحرر الحقيقة العلمية وتأخذ القيم الدينية دورها ووظيفتها ورسالتها، وتأخذ الحقيقة العلمية مسيرتها وحريتها وإبداعاتها في المجالات الحضارية المختلفة، فسوف يلتقيان في بناء الإنسان والارتقاء بخصائصه وصفاته الخيرة بقيم الوحي المنـزلة من الله. [ ص: 22 ]

            ولا شك أن الحقيقة العلمية إنما يجيء التوجه إليها وإنتاجها وطريقة استخدامها من قبل إنسان له قيمه وأهدافه ورؤيته وحاجاته ومشاعره وشخصيته، فهي بطبيعتها مشبعة بثقافة واهتمامات منتجيها، وهي الوسيلة الخصبة لإيصال هـذه الثقافة، ثقافة المنتج إلى المستهلك، وطبعه بطابع ثقافة وحضارة المنتج؛ فالمنتجات العلميه هـي في حقيقتها شواخص ثقافية، أشد فتنة وتأثيرا من القول المباشر، لذلك تأتي القيمـة الدينية الهادية كضرورة لبناء ثقافة المنتج ورؤيته، ليجيء الإنتاج لخدمة الإنسان المنتج والمستهلك وليس لتدميره.

            وهذا الكتاب، تقدم فيه الباحثة، وهي المتخصصة في معطيات العلم والتكنولوجيا، قراءات تعرض فيها لنماذج من المخاطر والإصابات، التي رافقت معطيات العلم والتكنولوجيا، وما ألحقت بإنسانية الإنسان وخصائصه وصحته من أمراض وشرور، وما أورثته من تلوث للبيئة، التي تشكل رحم الإنسان ومحضنه، إضافة إلى ما حققت من إنجازات مبهرة في مجالات شتى ساهمت بتقدم البشرية ومعالجة أمراضها المزمنة والمستعصية.

            ولعل هـذه القراءات، التي تشكل نوافذ أمينة للإطلالة على رحلة العلوم التقنية ونتائجها، تؤكد الحاجة الماسة إلى ترشيد الرحلة العلمية، وضبط مسيرتها، وتحديد أهدافها ووظيفتها ورسالتها، ذلك أن الكثير من الإنتاج التقني اليوم إنما تمحور حول إنتاج الأدوات التي تمكن للهيمنة والتسلط والتدمير، والقليل القليل منها لتحقيق سعادة الإنسان. [ ص: 23 ] وقد رأينا أنه من المناسب ألا نعرض لبعض الإصابات التي لحقت بالإنسان، نتيجة انفلات الرحلة العلمية من القيم السماوية الحضارية؛ لأن الكتاب تكفل بذلك إلى حد بعيد.

            ومالم نضبط المسيرة العلمية بقيم الوحي لترشيد خطواتها وتحديد أهدافها فسوف يستمر الانفلات العلمي من القيم السماوية، وتستمر الإشكالية اليوم والمعادلة الصعبة، حيث دين بلا علم يقابله علم بلا دين، وافتعال الصراع المستمر بين الدين والعلم.

            إن رحلة العلم المعاصرة وبعد اكتشاف هـذه الآثار الرهيبة التي تهدر كرامة الإنسان وتسقط إنسانيته بأشد الحاجة إلى أبجدية جديدة للقراءة، باسم الله الأكرم، واستصحاب هـداية الوحي التي تحرض على كسب العلم، وتضبط مسيرته، وتحدد رسالته، وتبين أهدافه، حتى لا ينقلب العلم إلى وسيلة للبغي والهيمنة والتسلط، والتضحية بأمان الإنسان في سبيل توفير أمن الجبابرة والطغاة.

            ولا يفوتنا هـنا أن نشكر للباحثة تعاونها غير المحدود الذي ساعد على إخراج هـذا الكتاب، الذي يشكل إضافة نوعية للسلسلة، حيث كانت مساحة المشروع تتجاوز المساحة المقررة للسلسلة، على أمل أن ينشر الكتاب بكامله في المستقبل، إن شاء الله.

            والحمد لله من قبل ومن بعد. [ ص: 24 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية