الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب تحريم الخمر

                                                                                                          وحدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت سئل رسول صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام [ ص: 268 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 268 ] 4 - باب تحريم الخمر

                                                                                                          وهي ما خامر العقل كما خطب بذلك عمر بحضرة الصحابة الأكابر ، ولم ينكره أحد فشمل كل مسكر سميت بذلك ; لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره ، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره ، كخمار المرأة لأنه يغطي رأسها ، ويقال للشجر الملتف الخمر لأنه يغطي ما تحته أو لأنها تركت حتى أدركت ، كما يقال خمر الرأي واختمر أي ترك حتى يتبين فيه الوجه ، واختمر الخبز إذا بلغ إدراكه ، أو لأنها اشتقت من المخامرة التي هي المخالطة ; لأنها تخالط العقل ، وهذا قريب من الأول ، والثلاثة موجودة في الخمر ، لأنها تركت حتى أدركت الغليان ، وحد الإسكار وهي مخالطة للعقل وربما غلبت عليه وغطته قاله أبو عمر .

                                                                                                          1595 1537 - ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أبي سلمة ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( بن عبد الرحمن ) بن عوف ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع ) بكسر الموحدة وتفتح وسكون الفوقية وقد تفتح وعين مهملة ، وهو شراب العسل ، وكان أهل اليمن يشربونه كما زاده في رواية شعيب عن الزهري بسنده عند البخاري ، قال أبو عمر : بلا خلاف عند أهل الفقه واللغة أعلمه في ذلك .

                                                                                                          قال الحافظ : ولم أقف على اسم السائل صريحا لكني أظنه أبا موسى الأشعري كما عند البخاري في المغازي عن أبي موسى أنه صلى الله عليه بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها فقال ما هي ؟ قال : البتع والمزر .

                                                                                                          ( فقال ) صلى الله عليه وسلم ( كل شراب أسكر فهو حرام ) عمومه شامل لما اتخذ من عصير العنب ومن غيره .

                                                                                                          قال أبو عمر : إذا خرج الخبر بتحريم المسكر على شراب العسل فكل مسكر مثله في الحكم ; ولذا قال عمر : كل مسكر خمر .

                                                                                                          وقال في الفتح : يؤخذ من لفظ السؤال أنه وقع عن حكم جنس البتع لا عن القدر المسكر منه ; لأن السائل لو أراد ذلك لقال أخبرني عما يحل منه وما يحرم ، وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا : هل هذا نافع أو ضار مثلا ؟ وإذا سألوا عن القدر قالوا : كم يؤخذ منه ؟ وفيه [ ص: 269 ] أن المفتي يجيب السائل بزيادة عما سأله عنه إذا كان مما يحتاج إليه السائل ، وتحريم كل مسكر سواء اتخذ من عصير العنب أو غيره .

                                                                                                          قال المازري : أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال ، وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره ، ثم إن حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا ، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المحددات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض ، ودل على أن علة التحريم الإسكار ، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم الراوي قليله وكثيره ، وهذا الذي استنبطه المازري ثبت عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وفي ذلك جواز القياس باطراد العلة فتحرم جميع الأنبذة المسكرة ، وبذلك قال الأئمة الثلاثة والجمهور .

                                                                                                          وقال أبو المظفر السمعاني في قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والإطراب من أجل الأقيسة وأوضحها والمقايسة التي في الخمر توجد في النبيذ .

                                                                                                          وقال الحنفية : نقيع التمر والزبيب وغيرهما من الأنبذة إذا غلى واشتد حرم ، ولا يحد شاربه حتى يسكر ولا يكفر مستحله ، وأما الذي في ماء العنب فحرام ويكفر مستحله لثبوت حرمتها بدليل قطعي ، وقد ورد لفظ هذا الحديث ومعناه من طرق عن أكثر من ثلاثين من الصحابة ، مضمونها أن المسكر لا يحل تناوله ، ويكفي ذلك في الرد على المخالف ، وقد قال جابر : حرمت الخمر يوم حرمت وما كان شرب الناس إلا البسر والتمر .

                                                                                                          وقال مالك : نزل تحريم الخمر بالمدينة خمر من عنب .

                                                                                                          وقال الحكيمي :


                                                                                                          لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا وفات
                                                                                                          ثمارها أيدي الجناة

                                                                                                          قال ابن عبد البر : أجمع أهل المدينة على ذلك قرنا بعد قرن ، وما أجمعوا عليه فهو الحق .

                                                                                                          ثم أخرج من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن ثابت قال : إذا رأيت أهل المدينة قد أجمعوا على شيء فاعلم أنه سنة .

                                                                                                          وقال ابن عبد الرحمن : هو الحق الذي لا شك فيه ولا حجة للمخالف فيما رواه النسائي برجال ثقات عن ابن عباس مرفوعا : " حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب " لأنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه .

                                                                                                          وعلى تقدير صحته فقد رجح أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ والمسكر بضم الميم وسكون السين لا السكر بضم السين أو بفتحتين ، وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محتمل فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع كثرتها وصحتها ؟ وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية