الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولله ما في السماوات وما في الأرض هذا تأكيد للنفي السابق في قوله تعالى: ليس لك من الأمر شيء إذ الأمر في السماوات والأرض كله لله تعالى، وسلطانه تعالى على ما في السماوات والأرض سلطان المنشئ والمدبر والمالك والعالم بماضي ما فيها وحاضره ومستقبله، خلق كل شيء فقدره تقديرا، وهو يعلم بما يجري فيه، وما سيكون من شأن له في المستقبل فهو علام الغيوب الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإذا كان كذلك فلا سلطان لأحد سواه، وليس لأحد مهما أعلى الله تعالى منزلته، واختصه بفضله ورحمته، شيء من الأمر، وهو سبحانه وتعالى يعلم توبة التائب قبل أن يتوب، وإصراره على الذنب قبل أن يموت، وهو الذي يغفر إن شاء، ويعذب من يشاء، ولذا قال بعد ذلك للدلالة على كمال سلطانه: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء

                                                          وسلطانه تعالى في هذا مطلق لا قيد يقيده؛ لأنه الحكم المطلق الذي لا يرد حكمه، والقادر المهيمن القاهر فوق عباده، ولقد قيد الزمخشري الغفران بالتوبة، ويقول في ذلك: (عن الحسن البصري ) : يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين لعذابه، وعن عطاء : (يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقبه ظالما) ويشير إلى اختيار ذلك [ ص: 1404 ] الرأي الذي نقله، ويقرر أن السياق يؤدي إلى هذا؛ لأن هذا تفسير لقوله تعالى من قبل: " أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " ، إذ تكون المغفرة عند التوبة والعذاب عند البقاء على الظلم، ويرمى الذين يسوغون الغفران لغير التائبين بأنهم يتصامون ويتعامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء!.

                                                          والأمر في هذه القضية يرجع إلى أن المعتزلة يقررون أن الذنب لا يغفر إلا بالتوبة، لصدق وعد الله ووعيده وقد وعد المتقين والتائبين بالثواب، وأوعد الظالمين بالعقاب، والله سبحانه وتعالى منجز وعده ووعيده، وأكثر العلماء على أن الله تعالى وصف نفسه بالغفران، وقال: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولقد ذيل سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله: " و الله غفور رحيم " وصف سبحانه وتعالى ذاته العلية بصيغة المبالغة في الغفران، فقال " غفور " أي: كثير المغفرة يحبها ويريدها، وهو رحيم، والرحمة أوسع معنى وأشمل من مطلق التجاوز عن الذنب، بل إن الرحمة قد تعم العقاب كما تعم الثواب، فاقتران الرحمة بالغفران يدل على ثلاثة أمور.

                                                          أولها: أن الله تعالى لا يكتفي بغفران الذنوب عن العصاة التائبين، بل يثيبهم على ما يفعلون من حسنات، وإن الحسنات عنده سبحانه وتعالى يذهبن السيئات.

                                                          ثانيها: أن الغفران من الرحمة، وما دام من الرحمة فلا قيد يقيده، والله أعلم بمن يكون موضع رحمته، ومكان مثوبته.

                                                          ثالثها: أن العذاب للمصر على الذنب الذي يعيث في الأرض فسادا، ويفتن الناس عن دينهم يعد من الرحمة؛ لأن رحمة الله تعالى عامة لا خاصة، ومن الرحمة بالعامة عقاب العصاة المفسدين، وثواب الطائعين الأبرار. [ ص: 1405 ] بعد أن أشار سبحانه إلى أن التفرق وعدم الطاعة للرسول كان سببا للهزيمة يوم أحد، والتعاون والاتحاد كان أساس القوة والنصر والتأييد من الله تعالى يوم بدر؛ أخذ يبين أن قوة الأمة تكون بالتعاون.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية