الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4390 باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أمن الناس علي في ماله وصحبته، أبو بكر)

                                                                                                                              وهو في النووي ، في (باب فضائل أبي بكر ، رضي الله عنه) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ، ص 150 ، 151 ج 15، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جلس على المنبر، فقال: "عبد خيره الله، بين أن يؤتيه: زهرة الدنيا وبين ما عنده" . فاختار ما عنده فبكى أبو بكر، وبكى، فقال: فديناك بآبائنا، وأمهاتنا قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو المخير) ، وكان أبو بكر: أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي، في ماله، وصحبته: أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام. لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ") .

                                                                                                                              [ ص: 265 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 265 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جلس على المنبر ، فقال : عبد خيره الله بين أن يؤتيه : زهرة الدنيا) المراد بها : نعيم الدنيا ، وأعراضها ، وحدودها . شبهها بزهر الروض.

                                                                                                                              (وبين ما عنده ، فاختار ما عنده) عز وجل ، في الآخرة .

                                                                                                                              وإنما قال : "عبد" وأبهمه : ليظهر فهم أهل المعرفة ، ونباهة أصحاب الحق .

                                                                                                                              (فبكى أبو بكر ، رضي الله عنه ثم بكى) . هكذا هو في جميع النسخ . ومعناه : "بكى كثيرا، ثم بكى" . (وقال: فديناك بآبائنا ، وأمهاتنا) .

                                                                                                                              فيه : دليل لجواز التفدية . وقد سبق بيانه مرات .

                                                                                                                              (قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هو المخير) : بفتح الياء المشددة . (وكان أبو بكر أعلمنا به) أي : بالمراد من الكلام المذكور ؛ فبكى حزنا على فراقه ، وانقطاع الوحي "وغيره من الخير" : دائما .

                                                                                                                              [ ص: 266 ] (وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أمن الناس علي) بفتح الهمزة والميم ، وتشديد النون : أفعل تفضيل من "المن" : بمعنى العطاء ، والبذل . أي : إن من أبذل الناس لنفسه (في ماله ، وصحبته : أبو بكر) .

                                                                                                                              قال النووي : قال العلماء : معناه : "أكثرهم جودا وسماحة لنا ، بنفسه ، وماله" . وليس هو من "المن" الذي هو الاعتداد بالصنيعة ، لأنه "أذى" مبطل للثواب . ولأن المنة لله ولرسوله : في قبول ذلك ، وفي غيره . انتهى.

                                                                                                                              وفي حديث "ابن عباس" عند الطبراني ، رفعه : "ما أحد أعظم عندي يدا : من أبي بكر ؛ واساني بنفسه ، وماله ، وأنكحني ابنته" .

                                                                                                                              وفي حديث "مالك بن دينار" عند ابن عساكر ، عن أنس ؛ رفعه : "إن أعظم الناس علينا منا : أبو بكر ؛ زوجني ابنته ، وواساني بنفسه . وإن خير المسلمين مالا : أبو بكر ؛ أعتق منه بلالا ، وحملني إلى دار الهجرة" .

                                                                                                                              وعند "ابن حبان" عن عائشة قالت : "أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أربعين ألف درهم" .

                                                                                                                              [ ص: 267 ] (ولو كنت متخذا خليلا) من الناس ، غير ربي : (لاتخذت) منهم : (أبا بكر خليلا) ، لأنه أهل لذلك ، لولا المانع . فإن خلة الرحمن : لا تسع مخالة شيء غيره ، أصلا .

                                                                                                                              قال عياض : قيل : "أصل الخلة" : الافتقار ، والانقطاع .

                                                                                                                              "فخليل الله" : المنقطع إليه .

                                                                                                                              وقيل : لقصره حاجته على الله تعالى.

                                                                                                                              وقيل : "الخلة" : الاختصاص .

                                                                                                                              وقيل : الاصطفاء .

                                                                                                                              وسمي "إبراهيم عليه السلام" : خليلا ، لأنه والى في الله تعالى ، وعادى فيه .

                                                                                                                              وقيل : "سمي به" : لأنه تخلق بخلال حسنة وأخلاق كريمة .

                                                                                                                              "وخلة الله تعالى له" : نصره ، وجعله إماما لمن بعده .

                                                                                                                              وقال ابن فورك : "الخلة" : صفاء المودة ، بتخلل الأسرار . وقيل : أصلها المحبة. ومعناه : الإسعاف ، والإلطاف .

                                                                                                                              وقيل "الخليل" من لا يتسع قلبه ، لغير خليله.

                                                                                                                              قلت : ولا مانع من إرادة الجميع . ومعنى الحديث : أن حب الله تعالى ، لم يبق في قلبه موضعا لغيره .


                                                                                                                              أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا

                                                                                                                              .

                                                                                                                              [ ص: 268 ] قال عياض : وجاء في أحاديث ؛ أنه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ قال : "ألا ، وأنا حبيب الله" . فاختلف المتكلمون ؛ هل المحبة أرفع من المملة ؟ أم الخلة أرفع ؟ أم هما سواء ؟

                                                                                                                              فقالت طائفة : هما بمعنى ؛ فلا يكون الحبيب ، إلا خليلا ، ولا يكون الخليل ، إلا حبيبا .

                                                                                                                              وقيل : الحبيب أرفع ، لأنها صفة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                              وقيل : الخليل أرفع . وقد ثبتت خلة نبينا "صلى الله عليه وآله وسلم" الله تعالى : بهذا الحديث . ونفى أن يكون له خليل ، غيره . وأثبت محبته : لخديجة ، وعائشة وأبيها ، وأسامة وأبيه ، وفاطمة وابنيها ، وغيرهم .

                                                                                                                              "هو ومحبة الله تعالى لعبده" : تمكينه من طاعته ، وعصمته ، وتوفيقه ، وتيسير ألطافه، وهدايته ، وإفاضة رحمته عليه . هذه مباديها . وأما غاياتها : فكشف الحجب عن قلبه ، حتى يراه ببصيرته ، فيكون كما قال في الحديث الصحيح : "فإذا أحبه : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به" هذا آخر كلام عياض.

                                                                                                                              [ ص: 269 ] وأما قول "أبي هريرة" رضي الله عنه : "سمعت خليلي صلى الله عليه وآله وسلم" : فلا يخالف هذا ؛ لأن الصحابي : يحسن في حقه الانقطاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . (ولكن أخوة الإسلام) ، ومودته : حاصلة .

                                                                                                                              وفي رواية : "ولكن أخي وصاحبي" أي : في الغار . "وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ، ولكن أخوة الإسلام أفضل" .

                                                                                                                              وكذا عند الطبراني ، لكن بلفظ : "ولكن أخوة الإيمان ، والإسلام : أفضل" . فنفى الخلة المنبئة عن الحاجة ، وأثبت "الإخاء" المقتضي للمواساة . قاله البيضاوي .

                                                                                                                              قال (في الفتح) : واستشكل بأن الخلة : أفضل من أخوة الإسلام ؛ فإنها تستلزم الأخوة وزيادة . وأجيب : بأن المراد : أن مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل من مودته مع غيره .

                                                                                                                              وقيل : أفضل بمعنى "فاضل" . .

                                                                                                                              [ ص: 270 ] قال : ولا يعكر على هذا : اشتراك جميع الصحابة ، في هذه الفضيلة ؛ فإن رجحان "أبي بكر" : عرف من غير ذلك ، وأخوة الإسلام ومودته : متفاوتة بين المسلمين : في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق ، وتحصيل كثرة الثواب . ولأبي بكر من ذلك : أكثره ، وأعظمه .

                                                                                                                              (لا تبقين في المسجد) : بنون التأكيد المشددة ، (خوخة ، إلا خوخة أبي بكر) : استثناء مفرغ.

                                                                                                                              والمعنى : لا تبقوا بابا غير مسدود ، إلا باب أبي بكر : فاتركوه بغير سد .

                                                                                                                              [ ص: 271 ] قال النووي : "الخوخة" بفتح الخاء : هي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين ، ونحوه .

                                                                                                                              وفيه : فضيلة ، وخصيصة ظاهرة ، لأبي بكر .

                                                                                                                              وفيه : أن المساجد تصان عن تطرق الناس إليها، في خوخات ونحوها ، إلا من أبوابها ، إلا لحاجة مهمة . انتهى.

                                                                                                                              قيل : وفيه تعريض "بالخلافة له" إن أريد به الحقيقة . لأن أصحاب المنازل اللاصقة بالمسجد ، كان لهم : الاستطراق منها إلى المسجد ، فأمر بسدها ، سوى خوخة أبي بكر ، تنبيها للناس على الخلافة . لأنه يخرج منها إلى المسجد للصلاة.

                                                                                                                              وإن أريد به المجاز : فالباب كناية عن الخلافة . والأمر بالسد : كناية عن نفي طلبها ، والتطلع إليها . كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا "أبا بكر" .

                                                                                                                              قال التوربشتي : وأرى المجاز أقوى ؛ إذ لم يصح عندنا : أن أبا بكر كان له منزل ، بجنب المسجد. وإنما كان منزله بالسنح ، من عوالي المدينة . انتهى .

                                                                                                                              وتعقبه (في الفتح) بأنه استدلال ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون منزله ، كان بالسنح : أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد . ومنزله "الذي كان [ ص: 272 ] بالسنح : هو منزل أصهاره ، من الأنصار . وقد كان له إذ ذاك : زوجة أخرى . وهي "أسماء بنت عميس" : بالاتفاق . وقد ذكر عمر بن شبة "في أخبار المدينة" : أن دار أبي بكر ، "التي أذن له في إبقاء الخوخة منها : إلى المسجد" : كانت ملاصقة للمسجد ، ولم تزل بيد أبي بكر ، حتى احتاج إلى شيء يعطيه : لبعض من وفد عليه ، فباعها ، فاشترتها منه : أم المؤمنين "حفصة" : بأربعة آلاف درهم . فلم تزل بيدها : إلى أن أرادوا : توسيع المسجد ، في خلافة عثمان ، فطلبوها ليوسعوا بها المسجد ، فامتنعت ، وقالت : كيف بطريقي إلى المسجد ؟ فقيل لها : نعطيك دارا أوسع منها ، ونجعل لك طريقا مثلها ، فسلمت ورضيت.

                                                                                                                              وقد وقع في حديث "سعد بن أبي وقاص" ؛ عند أحمد ، والنسائي ؛ بإسناد قوي : "أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بسد الأبواب الشارعة في المسجد ، وترك باب علي كرم الله وجهه" .

                                                                                                                              وفي رواية للطبراني (في الأوسط) برجال ثقات ، من الزيادة : "فقالوا: يا رسول الله ! سددت أبوابها ؟ فقال : ما أنا سددتها ولكن الله سدها" .

                                                                                                                              ونحوه "عند أحمد، والنسائي ، والحاكم" ، ورجاله ثقات ؛ عن زيد بن أرقم ، وابن عباس ، وزاد: "فكان يدخل المسجد وهو جنب ، وليس [ ص: 273 ] له طريق غيره" . رواه أحمد ، والنسائي ، ورجاله ثقات ونحوه من حديث "جابر بن سمرة" ؛ عند الطبراني :

                                                                                                                              قال القسطلاني : وبالجملة ؛ فهي - كما قاله الحافظ بن حجر - أحاديث ، يقوي بعضها بعضا . وكل طريق منها : صالح للاحتجاج ، فضلا عن مجموعها. لكن ظاهرها : يعارض حديث الباب . والجمع بينهما : بما دل عليه حديث "أبي سعيد" ، عند الترمذي ؛ أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي : "لا يحل لأحد : أن يطرق هذا المسجد جنبا: غيري وغيرك" . والمعنى : أن باب علي ، كان إلى جهة المسجد ، ولم يكن لبيته باب غيره . فلذلك : لم يؤمر بسده .

                                                                                                                              ومحصل الجمع : أن الأمر بسد الأبواب ، وقع مرتين ؛

                                                                                                                              ففي الأولى : استثنى عليا . وفي الأخرى : استثنى أبا بكر . ولكن لا يتم ذلك ؛ إلا بأن يحمل ما في قصة علي : على الباب الحقيقي ، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي . والمراد به : "الخوخة" ، كما صرح به في بعض طرقه .

                                                                                                                              [ ص: 274 ] وكأنهم لما أمروا : بسد الأبواب ، سدوها ، وأحدثوا خوخا ، يستقربون الدخول منها : إلى المسجد ، فأمروا بعد ذلك : بسدها . وبهذا الطريق : جمع أبو بكر الكلاباذي ، في "معاني الأخبار" ، وصرح : بأن بيت "أبي بكر" : كان له باب من خارج المسجد ، وخوخة إلى داخل المسجد . وبيت علي : لم يكن له باب ، إلا من داخل المسجد. والله أعلم .




                                                                                                                              الخدمات العلمية