الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما قدم سبحانه أن المفلح من تاب وآمن وعمل صالحا ، وهو الذي أشار أهل العلم إلى أن له ثواب الله ، وكان ذلك للآخرة [ ص: 371 ] سببا ومسببا ، ومر فيما لابد منه حتى ذكر قصة قارون المعرفة - ولا بد - بأن هذه الدار للزوال ، لا يغني فيها رجال ولا مال ، وأن الآخرة للدوام ، وأمر فيها بأن يحسن الابتغاء في أمر الدنيا ، وختم بأن هذا الفلاح مسلوب عن الكافرين ، فكان موضع استحضار الآخرة ، مع أنه قدم قريبا من ذكرها وذكر موافقتها ما ملأ به الأسماع ، فصيرها حاضرة لكل ذي فهم ، معظمة عند كل ذي علم ، أشار إليها سبحانه لكلا الأمرين : الحضور والعظم ، فقال : تلك أي : الأمر المنظور بكل عين ، الحاضر في كل قلب ، العظيم الشأن ، [البعيد] الصيت ، العلي المرتبة ، الذي سمعت أخباره ، وطنت على الآذان أوصافه وآثاره الدار الآخرة أي : التي دلائلها أكثر من أن تحصر ، وأوضح من أن تبين وتذكر ، من أعظمها تعبير كل أحد عن حياته بالدنيا والتي أمر قارون بابتغائها فأبى إلا علوا وفسادا نجعلها بعظمتنا للذين يعملون ضد عمله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح ، قال : لا يريدون ولم يقل يتعاطون مثلا ، [ ص: 372 ] تعظيما لضرر الفساد بالتنفير من كل ما كان منه تسبب ، إعلاما بأن النفوس ميالة إليه نزاعة له فمهما رتعت قريبا منه اقتحمته لا محالة علوا أي : شيئا من العلو في الأرض فإنه أعظم جار إلى الفساد ، وإذا أرادوا شيئا من ذلك فيما يظهر لك عند أمرهم بمعروف أو نهيهم عن منكر ، كان مقصودهم به علو كلمة الله للإمامة في الدين لا علوهم ولا فسادا بعمل ما يكره الله ، بل يكونون على ضد ما كان فيه فرعون وهامان وقارون ، من التواضع مع الإمامة لأجل حمل الدين عنهم ليكون لهم مثل أجر من اهتدى بهم ، لا لحظ دنيوي ، وعلامة العلو لأجل الإمامة لا الفساد ألا يتخذوا عباد الله خولا ، ولا مال الله دولا ، والضابط العمل بما يرضي الله والتعظيم لأمر الله والعزوف عن الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى ، أخبر سبحانه أنه دائما يجعل ظفرهم آخرا ، فقال معبرا بالاسمية دلالة على الثبات : والعاقبة أي : الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة ، هكذا الأصل ، ولكنه أظهر تعميما وإعلاما بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى : للمتقين أي : دائما في كلا الدارين ، لا عليهم ، فمن اللام يعرف أنها محمودة ، وهذه الآية يعرف [ ص: 373 ] أهل الآخرة من أهل الدنيا ، فمن كان زاهدا في الأولى مجتهدا في الصلاح ، وكان ممتحنا في أول أحواله مظفرا في ماله ، فهو من أبناء الآخرة ، وإلا فهو للدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية