الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين

ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في هذه السورة قال الكفار: ما هذه الأمثال؟ الله أجل من أن يضرب هذه أمثالا، فنزلت الآية.

وقال ابن قتيبة : "إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت، وقال قوم هذه الآية مثل للدنيا.

[ ص: 154 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى.

و"يستحيي" أصله يستحيي. عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه، وابن محيصن ، وغيرهما: "يستحي" بكسر الحاء، وهي لغة لتميم ، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء.

واختلف المتأولون في معنى: "يستحيي" في هذه الآية. فرجح الطبري أن معناه: يخشى، وقال غيره: معناه يترك، وهذا هو الأولى، ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك، أو قريب منه.

ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله بقوله: إن الله لا يستحيي على القائلين: كيف يضرب الله مثلا بالذباب ونحوه؟ أي: إن هذه الأشياء ليست من نازل القول، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع، فليست مما يستحيى منه. وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس، وهذا غير مرضي.

وقوله تعالى: أن يضرب : "أن" مع الفعل في موضع نصب كأنها مصدر في موضع المفعول، ومعنى يضرب مثلا : يبين ضربا من الأمثال، أي نوعا، كما تقول: هذا من ضرب هذا، والضريب المثيل، ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث، وضرب الذلة، فيجيء المعنى أن يلزم الحجة بمثل

[ ص: 155 ] و"مثلا" مفعول، فقيل: هو الأول، وقيل: هو الثاني قدم وهو في نية التأخير، لأن "ضرب" في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين.

واختلفوا في قوله: ما بعوضة فقال قوم: "ما" صلة زائدة لا تفيد إلا شيئا من تأكيد، وقيل: "ما" نكرة في موضع نصب على البدل لإبهامها. حكى المهدوي هذا القول عن الفراء ، والزجاج ، وثعلب ، وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن أن "يضرب" إنما يتعدى إلى مفعول واحد، وقال بعض الكوفيين : نصب "بعوضة" على تقدير إسقاط حرف الجر، والمعنى: أن يضرب مثلا ما من بعوضة. وحكي عن العرب : (له عشرون ما ناقة فجملا)، وأنكر أبو العباس هذا الوجه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والذي يترجح أن "ما" صفة مخصصة، كما تقول: جئتك في أمر ما، فتفيد النكرة تخصيصا وتقريبا، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :


سلع ما ومثله عشر ما عائل ما وعالت البيقورا

[ ص: 156 ] و"بعوضة" على هذا مفعول ثان، وقال قوم: "ما" نكرة، كأنه قال: شيئا، والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت :


فكفى بنا فضلا على من غيرنا     حب النبي محمد إيانا

وقد تقدم نظير هذا القول، والشبه بالبيت غير صحيح عندي.

والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال بضع وبعض بمعنى، وعلى هذا حملوا قول الشاعر:


لنعم البيت بيت أبي دثار     إذا ما خاف بعض القوم بعضا

وقرأ الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، ورؤبة بن العجاج "بعوضة" بالرفع. قال أبو الفتح : وجه ذلك أن "ما" اسم بمنزلة "الذي"، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا. فحذف العائد على الموصول، وهو مبتدأ، ومثله قراءة بعضهم: "تماما على الذي أحسن"، أي: على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل.

وقوله تعالى: فما فوقها من جعل "ما" الأولى صلة زائدة، ف "ما" الثانية عطف على "بعوضة"، ومن جعل "ما" اسما فـ "ما" الثانية عطف عليها.

وقال الكسائي ، وأبو عبيدة ، وغيرهما: المعنى فما فوقها في الصغر. وقال قتادة ، وابن جريج ، وغيرهما: المعنى في الكبر.

[ ص: 157 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والكل محتمل، والضمير في "أنه"، عائد على المثل.

واختلف النحويون في "ماذا" فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله؟ وقيل: "ما" اسم و "ذا" اسم آخر بمعنى الذي، فـ "ما" في موضع رفع بالابتداء، و "ذا" خبره، ومعنى كلامهم هذا، الإنكار بلفظ الاستفهام، وقوله: "مثلا" نصب على التمييز، وقيل: على الحال من "ذا" في "بهذا"، والعامل فيه الإشارة والتنبيه.

واختلف المتأولون في قوله تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا فقيل: هو من قول الكافرين، أي: ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة، وإلى هدى؟ وقيل: بل هو خبر من الله تعالى أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق، وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال.

[ ص: 158 ] ولا خلاف أن قوله تعالى: وما يضل به إلا الفاسقين من قول الله تعالى، ويحتمل أن يكون قوله تعالى: ويهدي به كثيرا إلى آخر الآية ردا من الله تعالى على قول الكفار: يضل به كثيرا .

والفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، والرطبة إذا خرجت من قشرها، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية: "يضل" بضم الياء فيهما، وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ "يضل" بفتح الياء "كثير" بالرفع "ويهدي به كثير، وما يضل به إلا الفاسقون" بالرفع.

قال أبو عمرو الداني : هذه قراءة القدرية ، وابن أبي عبلة من ثقات الشاميين ، ومن أهل السنة، ولا تصح هذه القراءة عنه مع أنها مخالفة خط المصحف. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى: "يضل" بضم الياء، وفي الثاني "وما يضل" بفتح الياء "به إلا الفاسقون"، وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية